مقالات ورأى

أنور الهواري يكتب: من أدرك الديمقراطية فقد أدرك العصر ومن فات الديموقراطية فقد فاته العصر

تأسست الجمهورية الإسلامية في إيران على رصيد من نضال الشعب الإيراني لأجل؛ الحداثة والاستنارة والحرية والديمقراطية ودولة الدستور والقانون على مدى، يزيد عن قرنين من الزمان، غير أنه عندما جرت ترجمة هذا النضال إلى دولة عقب الثورة 1978- 1979 م، التوى مسار التاريخ نحو ديكتاتورية دينية مستحدثة ومستجدة، سواء في تاريخ الدين أو في تاريخ الديكتاتورية، تأسست الديكتاتورية الدينية على أنقاض الدكتاتورية البهلوية عام 1979 م، قبل عشرة أعوام من بدء سقوط الديكتاتورية السوفيتية التي حولت الشيوعية إلى عقيدة وأيديولوجيا، ونمط تفكير ومنهج حياة مكتف بنفسه، ومنغلق على ذاته 1989م، وفي العام ذاته، تأسست ديكتاتورية عسكرية- دينية في السودان، استلهمت النموذج الإيراني، وسقطت بعد ثلاثين عاماً 2019 م، بعد أن تركت السودان نهباً للانقسام، ثم التقسيم، ثم الثورة، ثم الفوضى ثم الحرب الأهلية، ثم فقدان المناعة الذاتية، ثم الوقوع رهن التدخلات الأجنبية المتنافسة على مستقبل وخيرات ومصير السودان، سواء كان التنافس في العلن أو في الخفاء.

كما تجاورت وتنافست الديكتاتورية الدينية المستجدة في إيران- عبر الوكلاء والتوابع- مع ديكتاتورية وهابية عتيدة مستقرة في المملكة العربية السعودية على مدى يقرب من خمسة وأربعين عاماً، تنافس البلدان الكبيران على جانبي الخليج في العراق وسوريا ولبنان واليمن، كما بقاع بعيدة في آسيا وإفريقيا، كلتا البلدين تواجه مأزقاً وجودياً، يتمثل في أن الإيديولوجيا الدينية- الوهابية ثم ولاية الفقيه- غير قادرتين على استمرار التكيف مع عصر القرن الحادي والعشرين.

المملكة العربية السعودية عزمت أمرها، وأخذت أضخم قرار في تاريخها بعد الحدث الأعظم، وهو تأسيسها ذاته، أخذت القرار بالتخلي التدريجي عن الوهابية، وحتى تدرك خطورة هذا القرار- خطورة بمعنى الجسارة- يكفي أن تعلم أن التحالف السعودي- الوهابي بدأ ثورة دينية عظمى، زلزلت جزيرة العرب وما حولها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كانت ثورة سياسية دينية- بكل معنى الثورة- قبل اندلاع الثورتين الأمريكية، ثم الفرنسية في الفترة ذاتها من أواخر القرن الثامن عشر، ثورة سياسية- دينية، زلزلت المركز الإمبراطوري في إسطنبول، وأعادت وضع جزيرة العرب على مسرح التاريخ المعاصر، بعد أن انزوت منذ سقوط حكم الخلفاء الراشدين في المدينة المنورة، ثم انتقال عاصمة الحكم العربي منها إلى دمشق، ثم بغداد، ثم عواصم شتى، ليس منها المراكز المعمورة في جزيرة العرب وبالذات في قلبها ووسطها، الثورة الوهابية صمدت، بينما عجزت ثورة علي بك الكبير، التي تزامنت معها عن الاستمرار أكثر من سنوات على أصابع اليد الواحدة، صمدت الثورة الوهابية صمود ثورة اليونان عند مطلع القرن التاسع عشر مع فارق، أن ثورة اليونان وقفت خلفها أوروبا كلها، تشد أزرها في وجه السلطان العثماني وجيوش محمد علي باشا، تحت قيادة نجله إبراهيم، كانت الثورة السعودية- الوهابية الأولى على درجة عظيمة من البسالة والبطولة والعناد، استنزفت من باشا مصر قريباً من عشر سنوات، حتى قضى عليها، ودمر عاصمتها الأولى في الدرعية 1818، ثم مع التأسيس الثالث للدولة السعودية على يد الملك عبد العزيز آل سعود 1875 – 1853 م، تحولت الوهابية إلى أيديولوجية سياسية للحكم السعودي، ثم اكتشف الإنجليز والأمريكان فاعلية الوهابية في مقاومة المد السوفيتي الشيوعي في العالم الإسلامي؛ فضاعف ذلك من قيمتها، السبب ذاته وراء اكتشاف الإنجليز والأمريكان مزايا جماعات الإسلام السياسي في صد الثقافة الشيوعية ومحاصرة المد السوفيتي، سواء بعد قيام الحكم البلشفي في روسيا خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، أو بعد نشأة الحرب الباردة بين الكتلة الشيوعية بقيادة روسيا والكتلة الرأسمالية بقيادة أمريكا في سنوات، ما بعد الحرب العالمية الثانية، على مدار القرن العشرين بكامله، وبالتحديد من الثورة البلشفية 1917، حتى ثورات الربيع العربي 2011 م، كانت الوهابية السعودية وجماعات الإسلام السياسي من المغرب، حتى إندونيسيا جزءاً من المنظومة العاملة في خدمة الآلة الكونية الغربية في مواجهة المخاطر الآتية من روسيا الشيوعية.

الديكتاتورية السوفيتية لم تعمر أكثر من سبعين عاماً، سقطت من داخلها، بعد أن عجزت عن تطوير نفسها، ثم بعد أن عجزت عن مواصلة السباق مع الغرب الرأسمالي الذي تضمن له الديمقراطية تجديد نفسه والتعرف على نقاط ضعفه ومعالجة أخطائه، سقط الاتحاد السوفيتي، تفكك من داخله، وعلى أيد تنتمي إليه، وتربت على أفكاره، سقط ولن يعود، بينما الغرب يواصل السيطرة والتجدد، ويعيد هيكلة العالم عبر التكنولوجيا. الديكتاتورية العسكرية- الدينية في السودان التي استلهمت نموذج الجمهورية الإسلامية في إيران سقطت بعد ثلاثة عقود، أنتجت خلالها كوارث كبرى، حلت بالسودان، وربما تستمر السلبيات المدمرة لهذا الحكم تتوالى في الظهور في العقود المقبلة، رغم سقوطه في 2019م، أسوأ ما تركته الديكتاتورية العسكرية الدينية في السودان، أنها أفقدته مناعته الذاتية، ثم مناعته وحصانته الخارجية، فبات يستجيب بسهولة لدواعي الانقسام والتقسيم والتشرذم والخصام؛ وصولا إلى الحرب الأهلية، كما بات على درجة غير مسبوقة من الهشاشة تسمح بالتسلل، ثم بالتطفل، ثم بالتدخل، ثم بالتغلغل للعديد من القوى الأجنبية سواء عربية أو إقليمية أو دولية، بعد ثلاثين عاماً من الحكم العسكري- الإسلامي فقد السودان فقداناً كاملاً كل سيطرة على مصيره، وهو ما لم يحدث عقب ثلاثة أرباع قرن من حكم الاستعمار البريطاني.

السعودية أخذت خطوة استباقية، وطرحت حمولة الوهابية وأثقالها من فوق ظهرها، وأزاحت بذلك عقبة كبرى تحول بينها وبين المستقبل، ومن المبكر القول، إنه لا مستقبل للسعودية دون ديموقراطية، فالديموقراطية طريق طويل لها شقان: الشق الأول، إزالة الموانع التي تحول دونها، ثم الشق الثاني، إقامة الجسور التي تؤدي إليها، والتكوين التاريخي للسعودية يضعها على الخطوة الأولى على طريق إزالة الموانع، وسوف يستغرق أمداً طويلاً، ربما حتى نهاية القرن، إذ سكنت الوهابية سواء بالعادة أو بقوة الدولة في تلافيف الروح والعقل والمزاج والضمير والأعصاب وطرق التصرف والسلوك والتفكير.

إذا كانت الوهابية- كرؤية للدين والدولة والمجتمع وعموم الحياة- قد جرى اعتناقها منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أي ما يزيد على قرنين ونصف قرن من الزمان؛ فإن الانصراف عنها صعب، ولا يكفي قرار سياسي، إنما يلزم مشاريع فكرية جديدة، وهذه المشاريع تستلزم أقداراً من الحرية، وهذه الحرية لم يسبق السماح بها للشعب، ولم يسبق بممارستها، ولا التعود عليها، أقصد الحريات المدنية سواء العامة والخاصة التي تسمح بحريات أكاديمية وصحفية وإعلامية وحريات تعبير وتفكير من تلك التي أنتجتها الإنسانية في القرون الخمسة الأخيرة، وهي تكافح للتحرر من سيطرة الملوك والنبلاء وكهنة الأديان.

نموذج الجمهورية الإسلامية في إيران، ليس بعيداً عن المصائر الثلاثة: السوفيتي حيث تنهار الدولة من داخلها وهو الأرجح، السوداني حيث تسقط بثورة يعقبها فوضى، ثم حرب أهلية، أو السعودي، أي التخلص من أيديولوجيا ولاية الفقيه، وهذا أسهل الحلول وأصعبها سهل، لأن من الممكن تبرير ذاك التخلص، بأنه استجابة لمراجع وفقهاء عظماء من كبار آيات المذهب الشيعي الاثنا عشري الذين يعارضون نظرية ولاية الفقيه منذ أسسها، ثم أمكن لها الإمام الخميني، هنا يكون الانتقال من اجتهاد إلى اجتهاد آخر داخل المذهب، لكن هذه سهولة نظرية فقط، لأن ولاية الفقيه لم تعد مجرد اجتهاد، لكن باتت دولة متمكنة تقترب من الخمسين من عمرها، حاربت وحوربت وانهزمت وانتصرت وملأت الكون، وشغلت التاريخ، التخلص من الوهابية جراحة صعبة، لكن لا يقوض ركائز الدولة السعودية التي يظل عمادها هو آل سعود أولاً، ثم  السيف ثانياً، ثم الثروة النفطية ثالثاً، ثم التوازنات القبائلية رابعاً، ثم قبل ذلك وبعده موقع المملكة من الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وغرب آسيا والبحر الأحمر والخليج. أما في حالة إيران، فأي مساس بنظرية ولاية الفقيه، يفتح الباب لتقويض النموذج بأكمله، لن يكون غير ضربة مفك تترك الدولة كلها على غير، ما كانت من صولجان وقوة.

ولاية الفقيه بمعنى، أن الحاكم الفعلي الذي تتركز كل السلطات في يده نائباً عن الإمام الغائب الذي غاب عن الوجود- حيث لا يدري أحد- في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، والذي هو بدوره ينوب عن حضرة سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام الذي أوصى- حسب الفقه الشيعي الاثنا عشري- أن يكون الحكم من بعده في الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وذريته من السيدة الطاهرة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه نظرية لا محل لها من العقل إلا في مكان مثل الشرق الأوسط، إذ لم يحكم الأئمة الاثنا عشر غير سنوات معدودات، ربما على اليد الواحدة، فلم يحكم الإمام الأول، وهو سيدنا علي بن أبي طالب غير خمس سنوات، ثم لم يحكم الإمام الثاني، وهو نجله الأكبر سيدنا الحسن غير ستة أشهر، ثم عزف أكثرهم من بعد مصرع الإمام الثالث سيدنا الحسين عن السياسة والحكم من أساسه، ثم يأتي الإمام الخميني بعد أكثر من ألف عام، ويقرر حق الأئمة من آل البيت في الحكم، على أن ينوب الفقهاء مقامهم، إلى أن يأذن الله بعودة الإمام الغائب، وظهوره من جديد؛ ليملأ الأرض نوراً وعدلاً.

هذا نوع من التفكير يليق فقط بالشرق الأوسط التعيس الذي قامت فيه دولة لفكرة أكثر ضلالاً تقول أن أرض فلسطين وعد من الله ليهود القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين لأنهم استمرار لأنبياء وملوك بني إسرائيل الذين كانت لهم فيها ممالك، قامت قبل ما يزيد عن ألفي عام. نموذج الجمهورية الإسلامية في إيران، ولد من فكرة تاريخية مأزومة، مثلها في ذلك، مثل ميلاد الدولة الإسرائيلية من رحم فكرة مهترئة، اهتراء الفكرة الأساس، تجعل كلاً منهما مسكونة بتناقضات عميقة كفيلة بالقضاء عليها من داخلها، كلتاهما على تناقض مع زمانها، ثم كلتاهما تلعب دورا إمبراطورياً في محيط على عداء، إيران تظل أقلية فارسية بجوار أغلبية عربية، ثم أقلية شيعية وسط محيط سني، ثم ولاية الفقيه أقلية داخل المذهب الشيعي، الجمهورية الإسلامية في إيران، لا تستمد قوتها من تماسك الإجماع الوطني داخلها

فالتناقضات المكبوتة كامنة، تنتظر لحظة الانفجار، لكن تستمد قوتها من الحزام الشيعي الذي تحزم وتحاصر به جوارها العربي، وكذلك لا تستمد إسرائيل تفوقها من تماسكها الداخلي؛

فهم أشتات متفرقون من جينات مختلفة، لكن تستمد قوتها من الكفالة الأمريكية الغربية التي تضمن لها التفوق العسكري، ثم النصر العسكري على كل العالم العربي والإسلامي مجتمعين معاً.

الذي يضمن بقاء الجمهورية الإسلامية في إيران ليس أي ديمقراطية من أي نوع، لكن بقاءها مضمون فقط بتماسك تحالف السيف والمذهب والنظرية، كذلك يقال عن الديموقراطية العنصرية الزائفة في إسرائيل؛

فهي لا تضمن بقاء هذه الدولة المصطنعة، إنما يضمن بقاؤها، أنها ثكنة عسكرية محلية موصولة بترسانة عسكرية إمبراطورية، لم يعرف لها العالم مثيلاً من قبل، الفارق الجوهري بينهما، أن إيران شعب أصيل عريق صاحب دور بارز في الإقليم، وصاحب تاريخ حضاري وإمبراطوري عريق، إيران لها مستقبل يوم، يكون عندها ديموقراطية، إسرائيل تنتهي وتزول من تلقاء نفسها، لو أصبحت عندها ديمقراطية، سواء بتعداد العرب في داخل فلسطين التاريخية أو سواء، بما تؤدي إليه الديموقراطية الحقيقية من تفكيك الثكنة العسكرية.

سوف يظل الشرق الأوسط بعيداً عن العصر، ما دام بقي بعيداً عن الديموقراطية، هذا عصر الديموقراطية، فمن أدركها فقد أدرك العصر، ومن فاتها فقد فاته العصر.

المصدر: (مصر360)

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى