مقالات ورأى

المعتصم الكيلاني يكتب : جرائم الحرب الإسرائيلية في لبنان: استهداف المدنيين وخرق القانون الدولي الإنساني

المعتصم الكيلاني – المختص في القانون الجنائي الدولي

تواصل إسرائيل في حملاتها العسكرية على لبنان استهداف المدنيين والبنية التحتية الحيوية، في انتهاك صارخ لقواعد القانون الدولي الإنساني. القصف المتعمد لمنازل المدنيين، والمستشفيات، والمدارس، وحتى شبكات المياه والكهرباء، يعد من أبرز الأمثلة على خروقات إسرائيل المتكررة لأحكام القانون الدولي التي تحكم سلوك الدول في النزاعات المسلحة. هذه الانتهاكات لا تقتصر على كونها أفعالاً عدوانية فحسب، بل ترتقي إلى جرائم حرب وجريمة ضد الإنسانية وفق المعايير القانونية الدولية.

القانون الدولي الإنساني: انتهاكات واضحة

القانون الدولي الإنساني، الذي يجسد في اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية لعام 1977، يضع مجموعة من القواعد التي تهدف إلى حماية المدنيين والحد من الضرر الناجم عن النزاعات المسلحة. من بين أهم هذه القواعد مبدأ “التمييز”، الذي يلزم الأطراف المتنازعة بضرورة التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، ومبدأ “التناسب”، الذي يمنع الهجمات التي تسبب ضررًا مفرطًا وغير متناسب على المدنيين مقارنة بالفائدة العسكرية المتوقعة.

إسرائيل، من خلال استهداف المدنيين في حملاتها العسكرية على لبنان، تنتهك هذه المبادئ بشكل مباشر. فالهجمات على المناطق السكنية المكتظة، وقصف المستشفيات والمدارس، وتدمير البنية التحتية المدنية لا يمكن تبريرها بضرورات عسكرية مشروعة. وفقاً لمبادئ القانون الدولي، يجب أن تكون الأهداف التي يتم ضربها ذات قيمة عسكرية واضحة، ويجب أن تُبذل أقصى الجهود لتجنب استهداف المدنيين.

جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية

استهداف المدنيين عمداً أو بشكل غير متناسب، كما فعلت إسرائيل في لبنان، يعد من أكثر الانتهاكات خطورة للقانون الدولي. المادة 8 من “اتفاقية روما” للمحكمة الجنائية الدولية تنص على أن “الاعتداءات المتعمدة التي تستهدف السكان المدنيين” تشكل جريمة حرب. ووفقًا لهذه المادة، فإن أي هجوم يهدف إلى ترويع المدنيين أو تدمير البنية التحتية الضرورية للحياة اليومية يعد جريمة حرب واضحة.

وبالإضافة إلى ذلك، قد تصل هذه الانتهاكات إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية إذا كانت جزءًا من هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد مجموعة من السكان المدنيين. يُعرّف القانون الدولي الجرائم ضد الإنسانية على أنها أفعال مثل القتل، والنقل القسري للسكان، والاضطهاد، التي ترتكب في إطار هجوم واسع أو منهجي ضد أي مجموعة من السكان المدنيين. في حالة إسرائيل، فإن تكرار الهجمات واستهداف المدنيين في مناطق معينة من لبنان قد يُفسر على أنه جزء من سياسة منهجية تستهدف إلحاق الضرر بالمدنيين كوسيلة للضغط على الحكومة اللبنانية والمقاومة.

ملاحقة إسرائيل قانونياً: السبل القانونية المتاحة

توجد عدة آليات قانونية يمكن استخدامها لمحاسبة إسرائيل على هذه الانتهاكات. أولها هو المحكمة الجنائية الدولية (ICC). وعلى الرغم من أن إسرائيل ليست طرفاً في “اتفاقية روما” التي تأسست بموجبها المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن لبنان، بصفته دولة عضو في المحكمة، يمكنه إحالة الجرائم التي ترتكب على أراضيه إلى المحكمة. كما يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يحيل الوضع في لبنان إلى المحكمة الجنائية الدولية، ما سيفتح الباب للتحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية.

وبالإضافة إلى المحكمة الجنائية الدولية، يمكن للمحاكم الوطنية في بعض الدول التي تعتمد مبدأ “الولاية القضائية العالمية” أن تلاحق مرتكبي الجرائم الدولية، بغض النظر عن جنسيتهم أو مكان ارتكاب الجريمة. بعض الدول الأوروبية، مثل إسبانيا وبلجيكا، كانت قد استخدمت هذا المبدأ سابقًا لمقاضاة مسؤولين إسرائيليين على جرائم ارتكبت ضد المدنيين في الأراضي الفلسطينية ولبنان.

توجد أيضاً إمكانية اللجوء إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لتشكيل لجان تحقيق دولية في الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل. هذا النوع من اللجان، كما رأينا في سياقات سابقة مثل غزة، يمكنه توثيق الجرائم، وجمع الأدلة، ورفع التقارير إلى المحافل الدولية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية أو مجلس الأمن.

التحديات أمام المحاسبة الدولية

رغم أن القانون الدولي يوفر آليات واضحة لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب، إلا أن تحديات كبيرة تعترض هذه الجهود. إسرائيل، بدعم من بعض القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة، تتمتع بحماية دبلوماسية قوية تحول دون اتخاذ إجراءات قانونية ضدها في المحافل الدولية. إضافة إلى ذلك، فإن العقبات السياسية والدبلوماسية تمنع في كثير من الأحيان المجتمع الدولي من اتخاذ خطوات فعالة لمعاقبة الانتهاكات الإسرائيلية.

ورغم ذلك، يبقى التوثيق المستمر للجرائم، وجمع الأدلة، والضغط الدولي عبر منظمات حقوق الإنسان، عاملاً مهماً في إبقاء الانتهاكات الإسرائيلية تحت المجهر. العديد من المنظمات الحقوقية الدولية، مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”، لعبت دوراً أساسياً في توثيق الجرائم المرتكبة في لبنان، وهو ما يعزز فرص المحاسبة في المستقبل.

الهجمات الإسرائيلية على المدنيين في لبنان تمثل انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني، وترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. رغم التحديات التي تواجه ملاحقة إسرائيل قانونياً، فإن القانون الدولي يوفر سبلًا متعددة لمحاسبتها على هذه الجرائم. ما زال المجتمع الدولي بحاجة إلى مزيد من الجهود، سواء من خلال المحافل الدولية أو عبر المجتمع المدني، لضمان تقديم المسؤولين عن هذه الانتهاكات إلى العدالة، ووضع حد لسياسة الإفلات من العقاب.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى