بقلم/ شيماء عيسي
كاتبة صحفية مصرية
عمل روائي جديد يطل من خلاله الأديب والكاتب المصري علي الصاوي، والذي جالت بنا رواياته الماضية في حياة اسطنبول التي لا يعرفها أحد، ولكنه اليوم يرسو بنا على شاطيء الخيال نحو قرية بعيدة أهلكتها النكبات وأبعدت أهلها عن كنز حضارتهم وسر بقائهم؛ فكان مستقرهم حيث “وادي الطفشان”، تتناوشهم أطماع كهنة معابد الآلهة القديمة، وتستغل جهل أهلها، وصراعات ساستها على العرش، كما تستغل صمت الفلاسفة الذين تحيروا بين مواجهة قومهم في واديهم أو النجاة بأنفسهم ومن بعدهم الطوفان!
تستدعي الرواية زمنًا ماضيا يستدعيه تاجر أوان فخارية يروي لابنه عن قرية “أم الخلود” زينة قرى الجنوب، ذات القلاع الحصينة والأنهار الممتدة من الشمال للجنوب، وقد شغف الابن بأسرار التاريخ وقصة القرية، وسعى لدروس المعبد رغم كونه ليس من النبلاء المسموح لهم بدخولها، ثم قرر التسلل لمكتبة الكتب القديمة حتى وصل لبغيته في كتاب “الأساطير الوسطى والقرية المنكوبة”.. ولتبدأ الرحلة التي يحكيها راوٍ عليم لا نراه، وتتخللها حوارات الأبطال.
تحكي الأسطورة أن قرية الجنوب البهيّة قد سقطت في واد مليء بآلهة قديمة متصارعة، تعيش حربا باردة للسيطرة على خيراتها، وقد بطر أهل القرية معيشتهم وأساءوا للنعمة، فنزلت بهم ريح شديدة أعقبتها سيول وهزات أرضية جرفت البيوت والبشر ولم يبق إلا قلة أصبح عليها أن تتيه في الأرض لتتحسر على الفردوس المفقود، بما يذكرنا بالقصص القرآني عن أحوال الأمم السابقة.
ويعتني الراوي بالمكان في “وادي الطفشان” فيرسم تفاصيل المعابد العتيقة وأعمدتها الفخمة وتماثيلها التي تجسد معبودات القرية القديمة، بما يوحي لنا بعالم يمزج الحضارات اليونانية والفرعونية القديمة.
أبطال الرواية يمكن حصرهم في حفنة قليلة من الكهنة والحكام والفلاسفة، مع ظهور الرعية في الخلفية سكارى مغيبين، يدورون في ساقية للحصول على فتات الطعام ويتنافسون لنيل عطايا الأمراء، وذلك رغم أن بلادهم هي “صومعة الغلال” ولكن خيرها يذهب لغيرها، وكأننا إزاء تعرية لواقع يعكس الطبقية الشديدة التي تتسم بها حياة عالمنا الثالث، والغريب أن القرية لم تتعلم الدرس وبرغم الطوفان الذي أصابها وطبقت نفس الثنائية السادة والعبيد في “وادي الطفشان”!
مع بزوغ الشمس يستيقظ خادم معبد القرية “خافيروس” ليلقي ملحمة سيد الآلهة وحامي الحدود، بينما ينشغل الحاكم ووزيره بإدارة الصراعات الداخلية والتآمر بين الأقطاب لبسط النفوذ، ولا تنسى البطانة أن تنصح الحاكم بالشدة وعدم اللين مع كل صوت معارض وخاصة إن جاء من الفلاسفة، وبإحكام نظرية إغراق الرعية في المتع والترفيه لتدوم سكرتهم!
تبدأ الأحداث في الاشتعال مع نبوءة عّراف كهل يمثل صوت الحكمة حين يتنبأ بزوال عرش صاحب القرية قائلا: “لا قرون بعد اليوم” وهو يرنو بنظره للقرنين المتوّج بهما! كان هذا العراف أحد من قرروا العيش على أطلال بعيدة لا يخرج إلا للتعبد في ضوء الشمس، في مشهد يذكرنا بـ”أهل الكهف” ويتبعه فيلسوف شاب يدعى “أسفين” يشعر بغربة نفسية مع محيطه الزائف الذي يرميه بكل التهم بما فيها الخيانة.
تتصاعد الأحداث حتى ذروتها مع إحكام كهنة معبد الإله ماتوم هيمنتهم على كنوز الأرض في “وادي الطفشان”، حتى باتوا المتحكمين في كل مقاديره، فيما بقي سدنة معبد “حاتوم” في كهنوتية محاطة بالأسرار، يصدرون رضاهم “تقية” للحكام ويعملون ضدهم في السر “حروبا ناعمة”، وهم غارقون في هالة متوهمة من القداسة وحياة “استعلائية” تذكرنا بالجماعات الدينية التي ابتليت بها مجتمعاتنا.
يهتم الراوي بالوصف الذي يجعلنا نتعايش مع الأحداث؛ سواء الوصف النفسي والجسدي للشخوص، ومنهم الكاهن “أخسيس” القصير المكير، والذي يستميل نبلاء المعبد الثاني “حاتوم” بالذهب تارة وبالعواطف الدينية.
كما تتحرك الأحداث لذروتها مع انشقاق “نورزيف” كبير الوزراء وتحالفه مع كهنة معبد “حاتوم” وقد سعى كل منهما لاسترداد مكانته السليبة من قبل حاكم “وادي الطفشان”؛ فهي صفقة نفوذ ومصالح، وانتهت في وادي “التيه” بتنصيب هذا الـ”نوزيف” نصف إله!! وكأن المتمرد يتحول بمرور الوقت لمستبد جديد!
تظهر شخصية”إليتا” فتاة الحانة كمحصلة لحياة أهل القرية الغارقة في الملذات، فالنبلاء يستبيحون جسدها ومن هن على شاكلتها في الجمال، وكانت نفسها تتوق للطهر والزواج ممن تحب ولكن قلبها يتلقى طعنة قتله، وتسعى خلف “نورزيف” وتصدق وعوده حتى تجد أنه نسخة أشد حقارة من كل من عرفت!
يخاطب “أسفين” أحد الكهنة الفاسدين من حاشية القصر: تظنون أنفسكم مركز الأرض، انظر إلى تلك الوجوه البائسة والقلوب المرتجفة والأكباد الجائعة، وسوف تعلم أن هناك حقائق أكبر منك ومعبدك وكهنتك تستحق التضحية..
لقد أدرك الكاهن “أخسيس” بأن قوة الفيلسوف “أسفين” تكمن في حريته، فسعى لتدميره، فيما كان الآخر قد قرر بأن يعود للقرية حين يمتلك قوته اللازمة لمواجهة قروش بحر الفساد، بعد أن غربت شمس معلمه الذي لاذ بكهف الجبل، وتحققت نبوءته بزوال قرون وادي الطفشان وهي قرون تمثالها الأعظم رمز عرشها وحضارتها.
تنتهي أحوال “وادي الطفشان” نهاية أليمة مع كهنة معبد “ماتوم” حين أرادوا شراء حضارتها، آخر ما تمتلك، وقد تحولت مسار أنهارهم تجاه معبد الأقوياء، وتم تسخير المهرة من الناس لصالح تاريخ جديد وحضارة جديدة.. فيتساءل الحاكم وقد أهلكه العجز: وهل يمكن شراء التاريخ؟!
تتلبد السماء بالضباب والغيوم منذرة بتحقق النبوءة وذهاب ملك “وادي الطفشان” حينها أسرعت النخب من نبلاء وكهنة، كما فعلت من قبل، للنجاة بنفسها لا تلوي على رعية ولا أرض.. وفيما استمر نورزيف في الغرق في “وادي التيه” الأكثر ظلمة.. لم يبق أمام الفيلسوف “أسفين” سوى تحقيق حلم رآه بمجابهة أمواج عاتية والإفلات من صراع القروش، حتى يصل للحقيقة وينشر النور بعد أن عمّ الخراب والظلام.
يغلق الطفل بطل الرواية كتاب أسطورة وادي الطفشان، ويسرع للحاق بأبيه بائع الأواني الفخارية، وقد تعلق قلبه بقصة القرية ولم يعرف هل استردت حضارتها أم ضاعت للأبد؟!