تصادم الإرادة السياسية مع البيروقراطية: الحبس الاحتياطي بين البرلمان وتوصيات الحوار الوطني
في منتصف سبتمبر 2024، شهد المشهد السياسي المصري تصعيدًا حادًا إثر بيان صدر عن مجلس أمناء الحوار الوطني بشأن مشروع قانون الإجراءات الجنائية.
وهذا البيان جاء بعد مناقشات اللجنة التشريعية بمجلس النواب، التي اختتمت أعمالها في 11 سبتمبر 2024، والتي تناولت بشكل خاص المواد المتعلقة بالحالات الحرجة للحبس الاحتياطي.
ولكن ما أثار الجدل هو التباين الواضح بين مخرجات الحوار الوطني بشأن الحبس الاحتياطي وما خلصت إليه اللجنة التشريعية، مما فتح الباب أمام سلسلة من التساؤلات حول مدى التزام الحكومة والبرلمان بتنفيذ توجيهات رئاسة الجمهورية وتوصيات الحوار الوطني.
مخرجات الحوار الوطني وموقف الرئاسة
بتاريخ 23 يوليو 2024، عقد الحوار الوطني جلسات خاصة حول قضية الحبس الاحتياطي، وقد خلصت هذه الجلسات إلى مجموعة من التوصيات التي تم إرسالها بشكل مباشر إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي.
بدوره، لم يتأخر الرئيس في اتخاذ الخطوة المناسبة، إذ أحال تلك التوصيات إلى الحكومة لتنفيذها خلال أقل من 48 ساعة من استلامها.
وكان الهدف من هذه الخطوة السريعة هو توضيح التزام الرئاسة بمخرجات الحوار وإلقاء الكرة في ملعب الحكومة والبرلمان لتنفيذ هذه التوصيات بما يتناسب مع رؤية الدولة لتطوير النظام القضائي. لكن ما حدث بعد ذلك أثار العديد من الشكوك حول مدى فعالية هذه الإجراءات.
البرلمان بين السيطرة التنفيذية والضغوط البيروقراطية
توجيهات الرئيس إلى الحكومة حملت معها رسالة واضحة: التنفيذ العاجل للتوصيات الصادرة عن الحوار الوطني، وخاصة تلك المتعلقة بالحبس الاحتياطي.
ورغم أن المخرجات كانت تعبر عن رؤية متكاملة لإصلاح هذا الملف الحيوي، فإن التعامل البرلماني معها أظهر تباطؤًا غير مبرر.
فالحكومة بدورها أحالت التوصيات إلى البرلمان، لكن بدلاً من أن يتعامل مجلس النواب مع هذه التوصيات بجدية، حدثت انتكاسة كبيرة.
يبدو أن مجلس النواب الذي يسيطر عليه أعضاء منتخبون بنظام القائمة المطلقة، الذي يشوب العملية الانتخابية، جعل القرارات في البرلمان أقرب إلى أن تكون إجراءً شكليًا تمريريًا.
في هذا السياق، تظهر الدولة العميقة في مصر كعامل مؤثر يمتد على مدى عقود، حيث تتمتع بقدرة هائلة على مراجعة وإعادة تقييم القرارات التنفيذية، حتى لو كانت تلك القرارات صادرة عن رئيس الجمهورية نفسه.
بالتالي، البرلمان الذي يعاني من ضغوط بيروقراطية متعددة، بينها الضغوط الأمنية، اتخذ خطوات تعاكس فلسفة التوصيات الصادرة عن الحوار الوطني.
تجاهل جوهري لتوصيات الحبس الاحتياطي
في بيان مجلس أمناء الحوار الوطني بتاريخ 15 سبتمبر 2024، أشار المجلس إلى أن التوصيات التي تم تقديمها بشأن الحبس الاحتياطي لم تجد صداها الكامل في مشروع القانون الذي تم إعداده من قبل اللجنة التشريعية بمجلس النواب.
وقد أظهر المجلس امتعاضًا واضحًا من هذا التجاهل، حيث بيّن أن العديد من المقترحات الحيوية التي جاءت في الحوار الوطني لم تدرج في مشروع القانون، أو تم تضمينها بشكل ناقص لا يتناسب مع أهمية الموضوع.
ومن هنا، أُعلن أن مجلس الأمناء سيعيد صياغة التوصيات وإرسالها مرة أخرى إلى الرئيس، في محاولة لإعادة الأمور إلى نصابها.
نقاط الاختلاف الرئيسية بين التوصيات ومشروع القانون
هناك عدة نقاط خلافية جوهرية بين مخرجات الحوار الوطني ومشروع القانون المقترح. أبرزها يتعلق بتقليص مدة الحبس الاحتياطي.
فالتوصيات كانت قد قدمت خمسة بدائل لتقليص هذه المدة، لكن المشروع تجاهل أربعة منها تمامًا، وهو ما يُعتبر خطوة تناقض الهدف الأساسي من الحوار.
نقطة أخرى تتعلق بالمراقبة الإلكترونية كبديل للحبس الاحتياطي، وهو إجراء معمول به في العديد من الدول المتقدمة لضمان حقوق الإنسان.
ولكن اللجنة التشريعية تجاهلت هذه التوصية المهمة، مشيرة إلى أن النظام الرقمي المطلوب لتطبيقها ما زال قيد الدراسة، وهو ما يعيد للأذهان تأخيرًا مشابهًا لنظام مبارك الذي لم يُفعّل قاعدة بيانات الرقم القومي في الانتخابات حتى اندلاع أحداث 25 يناير 2011.
أما فيما يخص تعويض المحبوسين احتياطيًا بعد تبرئتهم، فقد تم تجاهل المقترحات الأربعة الأكثر أهمية المتعلقة بالتعويض المادي عن كل يوم يقضيه الشخص في الحبس الاحتياطي.
وهذا التجاهل يضع تساؤلات حول مدى جدية السلطة التشريعية في إصلاح النظام القضائي وحماية حقوق الإنسان.
البيروقراطية والأمن: أداة جديدة للتأجيل
مشروع القانون تضمن أيضًا بندًا يعطي النائب العام أو من يفوضه صلاحيات منع المفرج عنهم من السفر والتحفظ على أموالهم،
وهو ما يعد تعديًا على الحق في حرية الحركة بعد الإفراج عن الشخص أو تبرئته. وهذا يشكل استمرارية لعقوبات غير مبررة، مما يفتح الباب أمام إعادة معاقبة المفرج عنهم بطرق جديدة.
أما التوصيات الأخرى التي لم تُأخذ بعين الاعتبار فتشمل مقترحات مثل إعداد النيابة العامة لتقارير نصف سنوية حول حالات الحبس الاحتياطي، بالإضافة إلى تأسيس جمعيات أهلية تهدف إلى إعادة تأهيل المفرج عنهم ودمجهم في المجتمع.
وهذه النقاط لم تُدرج في المشروع، وهو ما يعكس تعنتًا واضحًا من مجلس النواب في تطبيق الإصلاحات الحقيقية التي تحتاجها البلاد.
ما بعد الرسالة الثانية للرئيس
مما لا شك فيه أن الحوار الوطني سيواصل مساعيه لإعادة طرح التوصيات على رئيس الجمهورية مرة أخرى، لكن السؤال الأهم هنا: هل ستتغير مواقف البرلمان والحكومة بعد ذلك؟
التجارب السابقة تُظهر أن البرلمان المصري، الذي ينبغي أن يكون أداة للحفاظ على حقوق الإنسان، أصبح في الواقع أحد العوائق الرئيسية أمام تلك الحقوق.
ويبقى مصير التوصيات مرهونًا بمدى استعداد الحكومة والبرلمان لتنفيذها بجدية، خاصة في ظل الصراع الخفي بين إرادة الرئاسة وتجاهل الأجهزة البيروقراطية العميقة التي تفضل إبقاء الأمور على حالها.