مقالات ورأى

زكريا صبح يكتب عن وادي الطفشان: رواية بلا راوٍ


يظل الأديب مؤرقا بقضايا تلح عليه ، تداهم عقله ، توقظه من نومه ، أسئلة يموج بها رأسه ، أسئلة تبدأ بكل علامات الاستفهام ، لماذا ، وكيف، ومتى ،وأين ،ومن، وربما كان الأديب مشتركا مع بعض من بنى جنسه فى مثل هذا الارق ، لكنه لا يقف مكتوب اليدين لذا ليس غريبا ان تجده قد شرع فى وضع أوراقه البيضاء واقلامه الملونة _ رغم التقدم وكل وسائل الكتابةالاليكترونية الحديثة _ ليعيد رسم العالم مجردا ، راصدا علاته ، واضعا يده على أمراضه ،واصفا مشكلاته ، متخيلا المخارج من هذه المتاهة ، فإذا لم يجد مخرجا يكفيه شرفا ان شخص المرض ، وأظهر العلل ، وأشار إلى الخلل.

كلام حدثت به نفسى بعد ان فرغت من قراءة (رواية وادى الطفشان ) للأديب المبدع على الصاوى ، وطرحت على نفسى أسئلة من قبيل : ما الرسالة التى أراد لنا ان نفهمها من هذه الرواية؟

هل أراد أن يقدم شهادته للتاريخ مسجلا موقفه من حوادث جسام عصفت ببلدان كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا؟
هل أراد لعلم العمران الذى خط اصوله ابن خلدون ان يتحول إلى عالم روائى نرى من خلاله قيام وانهيار الأمم ؟
ربما كانت الإجابة عن كل هذه الأسئلة بنعم ،
ولذا ليس غريبا ان ترى خلف عمله الادبى وعالمه الروائى عقلية علمية منظمة ، فراح يستبدل الأفكار المجردة التى ارتسمت فى مخيلته ب بقرية متخيلة ، هذه القرية تمثل كل قرية و كل مدينة وكل دولة بل وكل أمة من الامم ، قرية تمثل نموذجا لمجتمع بشرى كان يعيش رغدا ثم كفر بأنعم الله ، فلما حق عليه العذاب اختار الكاتب له نوعا من العذاب المضنى القاتل وهو التشتت والتيه ،
ولما اختار اسما لهذه القرية التى أصابها العذاب اختار ان تكون ( ام الخلود ) ليس الخلود وحسب بل هى اصل وجذر الخلود ، وربنا كانت مصدرا لخلود غيرها ، فهى كام ستورث هذا الخلود لغيرها ،
فلما نزل بها العذاب اصبح عاليها سافلها ليس فقط فى البنيان ولكن فى الأخلاق أيضا، نوع من ( الانقلاب ) المفاجئ الذى أصابه جراء جحود النعمة .
ولما كان العذاب هو التيه والشتات ، اختار الكاتب لها ان تنزل ( القرية بأهلها وتاريخها وحكمائها وحكامها ) إلى واد به من الصخب ما به ، كأن الكاتب اراد ان يرمز بهذا الوادى إلى الحياة عموما ، الأرض المحيطة بالقرية ، ولأن طبيعة الحياة تقوم على الثنائية ( وجعل فيها من كل زوجين اثنين ) فقد جعل الوادى الذى يرمز إلى عموم الأرض والحياة تنقسم ريادته بين. قوتين عظميين ( الإله حاتوم ، والاله ماتوم. ) وطبيعة الصراع الدائر تقتضي النزاع الدائم والمؤامرات المستمرة والاستقطاب الحاد لاستمالة التابعين مقابل اى شيئ.

إذن وجدت قرية ام الخلود التى تمثل مصرا من الأمصار نفسها بين قوتين تتنافسان لاستمالتها ،طمعا فى تاريخها مستغلين فى هذا لحظة ضعفها التى كانت _ اى القرية _ سببا فيها إذ تمردت وجحدت النعم، كأنى بالكاتب فى تصويره لوداى الطفشان أراد أن يقول هذه هى طبيعة الحياة ، صراع دائم بين قوتين على فريسة نال منها الضعف والوهن ، وجعل يرسم لنا معالم الوادى الذى يرمز إلى الحياة فجعل فيه السوق والحانة. وجعل فيه الكاهن والاتباع ، وجعل فيها الغانية والفيلسوف ، والخيانة والفساد وكان الكاتب من الحنكة ان جعل من كل شيئ فى هذا الوادى رمزا ، رمزا مجردا يشير إلى ماصدقاته بلغة المنطق الإرسطى.

  • فمثلا ، الغانية اللعوب ليست الا رمز الغواية ، هى رمز للمرأة اولا اذا كانت على فطرتها ،لكنها تتعرض للقهر. من ذوى السلطات الدينية والسياسية فيجعلون منها امرأة لعوب يستخدمونها فى صراعاتهم القذرة ،
  • والحانة تمثل او ترمز إلى حال الشعوب اذا فقدت وعيها وتحولت من شعوب منتجة واعية إلى شعوب مدجنة لا تحلم سوى بالبقاء فى الحانة
  • والكاهن يمثل السلطة الدينية التى تحرص على غياب عقل تابعيها حتى يسهل السيطرة عليهم ، ولا يتورع الكهنة فى استخدام أقذر الوسائل من أجل ذلك ، ويدعون فى ذلك مرضاة الالهة ، فعل هذا اخسيس كان الإله حاتوم ، وبناليس كاهن الإله ماتوم ، وكل يدعى انه عل حق ،
    هل ذكرك ذلك بتباين الاديان والايديولوجيات والشرائع ؟
    مازلنا مع عرض الكاتب الشيق لهذا الوادى بما فيه ومن فيه ، فرأيناه يختلق لنا شخصيتين تمثلان الاتجاهات الفلسفية والتى قسمها إلى قسمين فلسفة طبيعية مادية تدافع عن الباطل وتحشد له. ولا تأبه لمنطق او فكر ومثل هذا الاتجاه. الفيلسوف قطبين الاقرع ، بينما مثل الاتجاه العقلاني المثالي الذى يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة الفيلسوف اسفين ،
    وجعل بينهما صراعا ونقاشا حادا فى ساحة السوق فلما انتصر اسفين بمنطقه وعقله لم يتورع قطبين فى الكيد له وشحن الكاهن بناليس من أجل قتله ،
    أليست هذه هى طبيعة الحياة ،؟ أليست هذه الرموز ليست الا رموزا لإعداد لا نهائية نقابلها فى الحياة ؟
    والكاتب هنا قام بعملين شاقين ايما مشقة اولهما التجريد لكى يجمع مفردات العالم والمتشابه منه جاعلا من ذلك رمزا واحد فى قصته مشيرا به إلى هذا التعدد الهائل ، فالكاهن ليس إلا رمزا لكل كاهن يمثل سلطة دينية ، وامرأة الحانة ليست الا رمزا للمرأة فى العالم اجمع وهكذا كانت عملية التجريد التى قام بها الكاتب
    اما العملية الأخرى فهى تصوير هذا العالم المجرد وخلق قصة مصورة تموج بالحركة والصراع بين هذه المجردات الرمزية ،
    وهنا نلاحظ حنكة الكاتب مرة اخرى فى رسم حركة الصراع الدائر بين الاضداد جاعلا من هذا الصراع قصة فيها من التشويق والعبرة ما فيها ،
    انظر معى إلى الصراع الدائر بين قطبى الوادى لاستقطاب القرية الضعيفة ، وكم المحاولات الشرعية وغير الشرعية لاستلاب كنوزها ، اليس فى ذلك إشارة لدول العالم الثالث والذى دائما ما يصادف ان يكون فى جنوب الأرض؟
    الا نستطيع اعتبار الوادى هو العالم الشمالي بكل مافيه من قسوة وطمع للسيطرة على العالم الأضعف؟

لقد جعلنا الكاتب نشعر اننا أمام ثلاث قارات ، ام الخلود قارة و ووادى الطفشان قارة ثم جزيرة التيه قارة اخرى
قرية ام الخلود التى كفرت بأنعم الله فوجدت نفسها فى فم أسد لم يرحم ضعفها، ووادى الطفشان الذى لا يتورع عن استلاب تاريخ الأمم ، ثم جزيرة التيه التى تجمع المتمردين المتأمرين الخائنين لاوطانهم، وكأن كل من اعترض على حاكمها او رغب فى الوصول إلى السلطة سيكون عقابه جزيرة التيه. هنا لابد من الإشارة إلى فلسفة الأسماء التى ابتكرها الكاتب على غير مثال سابق
فاختياره العنوان وادى الطفشان. اظنه قصد هو وداى التائهين الهائمين على وجهوهم من غير وجهة محددة.

وأم الخلود ترمز إلى الدول الراسخة الضاربة بجذورها فى أعماق التاريخ والجغرافيا، أبو سين ربما كان إشارة إلى شخص أو حاكم اذاق اهله ويلات الظلم والهوان ولم يغتم لما صارت اليه بلاده مثلما اهتم بحرصه على السلطة ، هذا وقد أشار الكاتب كيف انقلب على الحاكم الذى سبقه وكان يدى سرقسط.

خافيروس وهو كاهن القرية ربما فيه إشارة إلى معنى الخفراء الذين يحرسون الأبنية والاملاك، بناليس ، لست ادرى لماذ استحضر ابليس كلما قرأت هذا الاسم ، وقد كان يأتى من الافعال مالا يأتى بها ابليس، أسفين هذا الفيلسوف دائم الأسف على حال الوادى وأهله حتى انه اعتزلهم، هذه ليست اكثر من محاولة شخصية لفك شفرات النص وأسماء ابطاله.

الجانب الفنى

لا شك أن الروائ عندما يشرع فى كتابة روايته يستعين على ذلك بتقنيات فنية كثيرة وقد حرص الكاتب على ذلك
** ١/ جعل القصة مروية عبر كتاب التاريح القديم الذى وجده شاب فى معبد ما ، فلم تأت القصة على لسان راو محدد ،
وربما راق لى ان أصف هذه الروايه انها بلا راو ، وفى بعض اللحظات رأيت ان الرواى ليس إلا الكاتب بشخصه واسلوبه ومنطقه وفكره ،كنت استحضر الكاتب دوما طيلة قراءتى للعمل
ابتدأ الكاتب بهذا الشاب الذى يحاول معرفة تاريخ الأمم، وانتهت الرواية أيضا عندما انتهى الشاب من قراءته.

٢/ حرصا من الكاتب فى التمويه وحتى لا تكون هناك شبهة إشارة لبلد ما تكون هى المقصودة بالعمل جعل الكاتب الرواية تدور فى أجواء أسطورية ولم يحدد هل تنتمى للاساطير الفرعونية ام اليونانية
٣ / وحتى يجعل القارئ فى حالة تصديق اصطنع له نصوصا مقدسة من كتب الغابرين خاصة كتاب القدر الذى لم يفارق يد الفيلسوف اسفين

٤ / حاول تصوير القرية والوادي تصويرا اسطوريا وكأنه استدعى هذا الزمن بأبنيته واسواقه وملابس اهله وحكامه وكهنته واغنيائه وفقرائه وفلاسفته وغانيته.

٥/ رغم ان اسلوب الكاتب كان تقريريا الا انه كان يناسب الرواية وهى تحكى طرفا من حياة الغابرين.

٦/ استخدم الكاتب تقنية المونولوج الداخلي كى يستنطق شخصياته وما يعتمل فى صدورها ومثال ذلك حديث اسفين مع نفسه ص ٢٦

٧/ استخدم الحوار بين الابطال من أجل تصوير الصراع الفكرى والايدولوجى بينهم ومثال ذلك الحوار الذى دار بين اسفين والعراف ص ٣٦

٨/ استحضر مشاهد مسرحية من خمسة فصول كانت تعرض فى سوق الوادى ، فيما يعرف بتداخل الأجناس الأدبية.

٩/ ووفقا لطبيعة العصر انذاك أدار مناظرات فلسفية بين اسفين وقطبين.

١٠/ استخدم الأحلام كتقنية روائية مهمة ، حلم اسفين الذى فسره له العراف ص ٧٨

١١/ حتى أدب الرسائل استخدمه الكاتب فى الرسالة الرومانسية التى تركها حبيب اليتا لها بعد حالة حب عارمة ص ٨٢

أسئلة فنية

راودتنى بعض الأسئلة فأردت ان اطرحها بين يدى الكاتب لعلى اجد اجابة شافية
١ – الكتاب الذى وجده الشاب فى المعبد والذى من خلاله قرأنا الرواية كاملة هو كتاب يضرب بجذوره فى القدم فلماذا كانت لغة القرأن بادية واضحة ( كانت قرية آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان )
٢_ علمنا ان القرية تعرضت لعاصفة جعلت عاليها سافلها لأنها كانت قرية فاسدة ولم نعلم شيئا عن طبيعة الفساد ،فلماذا؟
٣_ هل كان القدماء يحتفظون بالماء فى أبراج خشبية ؟

٤_ ورد مصطلح الاصولية فى ص ٥٠ فهل كانت مثل هذه المصطلحات موجودة؟

٥_ ما هو الداعى الفنى لذكر السطر الاخير من خطاب حبيب اليتا ص ٨٣
٦_ مفترض ان الوادى بالنسبة للقرية اكثر قدما واستقرار والا لما لجأت اليه القرية فكيف يطلب الكاهن اخسيس ان يكون مقابل حماية القرية السطو على تاريخها بحجة ان الوادى بلا تاريخ ؟؟

٧_ ورد مصطلح الحرب الباردة فى ص ١١ من الرواية فهل كان هذا المصطلح متداولا انذاك ؟؟

٨_ وردت كلمة لوبيات فى ص ١٠٧ فهل مثل هذا المصطلح كان شائعا ؟؟

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى