مقالات ورأى

المعتصم الكيلاني يكتب:اليوم العالمي للسلام.. بين العدالة ومكافحة الإفلات من العقاب

يحتفل العالم في 21 سبتمبر من كل عام باليوم العالمي للسلام، وهي مناسبة تكتسب أهمية كبرى في ظل التحديات التي يواجهها العالم في تحقيق السلام الحقيقي. السلام ليس مجرد غياب الحروب أو النزاعات المسلحة، بل يتطلب بناء نظام اجتماعي قائم على العدالة، سيادة القانون، ومكافحة الإفلات من العقاب. هذه الأركان لا تضمن فقط استقرار المجتمعات، بل تمنع أيضًا إعادة اندلاع العنف وتساعد في تجاوز الأزمات المزمنة.

السلام والعدالة: علاقة مترابطة

إن أي حديث عن السلام الحقيقي يجب أن يبدأ من العدالة. بدون عدالة شاملة، يبقى السلام منقوصًا. ولعل أكبر التحديات التي تواجه الدول في مناطق النزاعات اليوم هو كيفية تحقيق هذا التوازن. في أماكن مثل فلسطين، حيث يستمر الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني لعقود دون حل جذري، يبدو السلام بعيد المنال. فالمظالم التاريخية والتهميش المستمر للشعب الفلسطيني أدى إلى تغذية النزاع واستدامته.

في غزة والتي يحدث بها إبادة جماعية على مرأى ومسمع الجميع، نرى كيف تعكس معاناة المدنيين قسوة الاحتلال وتبعات غياب العدالة. التدمير المستمر للبنية التحتية، الحصار الاقتصادي، والاعتداءات العسكرية المتكررة تعمق الجروح المجتمعية، وتجعل من تحقيق السلام الكامل أمرًا مستحيلًا دون معالجة جذور المشكلة. العدالة تعني الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، وإنهاء الاحتلال، وإيجاد حل سياسي مستدام قائم اساساً على ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب و الجوائح ضد الإنسانية امام المحاكم الدولية .

مكافحة الإفلات من العقاب: خطوة نحو السلام

من جانب آخر، تلعب مكافحة الإفلات من العقاب دورًا حاسمًا في ضمان عدم تكرار الانتهاكات، سواء من قبل الدول أو الجماعات المسلحة. في الحرب الروسية-الأوكرانية، تم توثيق جرائم حرب وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان من قبل الطرفين، سواء عبر استهداف المدنيين أو التدمير العشوائي للبنية التحتية. هذه الانتهاكات المتكررة تغذي الاستياء والكراهية، مما يجعل المصالحة طويلة الأمد شبه مستحيلة إذا لم تتم محاسبة مرتكبيها. العدالة الانتقالية، التي تشمل التحقيق في الجرائم ومحاسبة المتورطين، تُعتبر شرطًا أساسيًا للوصول إلى سلام مستدام.

وفي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تقف الديكتاتوريات العسكرية والسياسية حاجزًا أمام تحقيق العدالة. في دول مثل سوريا ومصر وتونس، أدت الأنظمة السلطوية إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية، مما أدى إلى قمع الحريات وتعزيز الإفلات من العقاب. في سوريا على وجه الخصوص، تسببت الحرب الأهلية في كوارث إنسانية هائلة، لكن الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة من قبل النظام والجماعات المسلحة على حد سواء جعل من المصالحة أمرًا شبه مستحيل.

بناء عقد اجتماعي سليم: الطريق إلى السلام الكامل

السلام المستدام لا يتحقق فقط عبر توقيع اتفاقيات سياسية أو تهدئة الصراعات المسلحة مؤقتًا. بل يجب أن يقوم على أساس عقد اجتماعي جديد، يعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة على أساس من العدالة والمساواة. في هذا السياق، تعد العدالة الاجتماعية والاقتصادية ضرورة قصوى لتحقيق الاستقرار. إن الفقر والتهميش والإقصاء هي عوامل تغذي الصراع وتعيد إنتاج العنف.

النظام السياسي في أي دولة يجب أن يوفر للمواطنين فرصًا متساوية للعيش بكرامة، كما يجب أن تضمن قوانين الدولة حماية حقوق الإنسان وحرياته. بدون ذلك، يبقى أي اتفاق سلام مجرد هدنة مؤقتة، سرعان ما تنهار أمام ضغط الأزمات المتكررة.

في الصراع العربي-الإسرائيلي، وفي ظل غياب العقد الاجتماعي العادل الذي يضمن حقوق الجميع، يستمر الانقسام وتتصاعد التوترات. لن يتحقق السلام إلا من خلال إعادة تشكيل العلاقة بين جميع الأطراف على أساس من المساواة والعدالة، والاعتراف بالحقوق المشروعة لكافة الشعوب المتضررة.

الدروس المستفادة من الصراعات العالمية

من روسيا إلى أوكرانيا، ومن غزة إلى سوريا، تعلمنا أن غياب العدالة وسيادة الإفلات من العقاب يؤديان إلى تدوير الأزمات وتكرار العنف. في المقابل، تقدم تجربة دول مثل جنوب إفريقيا أمثلة ملموسة على كيفية بناء السلام المستدام عبر العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.

مكافحة الإفلات من العقاب ليست مجرد مطلب قانوني، بل هي ضمانة لألا تعود المجتمعات إلى دوامة العنف. الجرائم التي تمر دون محاسبة تبني إحساسًا بالظلم والكراهية، مما يعزز الرغبة في الانتقام بدلاً من المصالحة. ولهذا، فإن تحقيق السلام الدائم يتطلب معالجة الماضي بمسؤولية وشجاعة، عبر نظام عدلي يعترف بالجرائم ويحاسب مرتكبيها.

في اليوم العالمي للسلام، نذكر أن تحقيق السلام الحقيقي لا يمكن أن يتم دون عدالة شاملة، ولا يمكن أن يكون سلامًا مجتزأً أو مؤقتًا. إن بناء عقد اجتماعي جديد، قائم على العدالة والمساواة ومكافحة الإفلات من العقاب، هو الطريق الوحيد نحو سلام مستدام. في عالم يشهد أزمات متزايدة وصراعات مستمرة، يبقى الأمل في أن تكون العدالة هي الأساس الذي نبني عليه مستقبلًا أكثر استقرارًا وأمانًا للجميع.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى