تقارير

جزيرة الوراق .. صراع ملكية أم إخلاء قسري

تعود أزمة جزيرة الوراق، الواقعة في نهر النيل بمحافظة الجيزة، لتشعل النقاش مرة أخرى حول حقوق الملكية والتنمية.

وفي قلب هذا الصراع يتواجه سكان الجزيرة مع الحكومة المصرية في معركة لم تُحسم بعد، وسط وعود بالتطوير وتعويضات توصف بأنها غير عادلة، من جهة، وحقوق ملكية محمية بوثائق رسمية منذ عشرات السنين، من جهة أخرى.

وتتزايد الاحتجاجات في الجزيرة التي تشهد محاولات حكومية متكررة الاستحواذ على أراضي الجزيرة وإخلائها لصالح مشروعات استثمارية ضخمة، وهو ما أدى إلى تصعيد الموقف مع الأهالي الذين يرفضون التنازل عن أراضيهم ومنازلهم.

والذين يملكون عقود ملكية تعود لعقود، مغادرة منازلهم وأراضيهم. هذه المواجهة بين المواطنين والحكومة اشتدت حدتها بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، مع تجدد الاشتباكات بين الجانبين.

حصار الجزيرة والمواجهات المتكررة

بدأت المرحلة الأخيرة من الأزمة عندما فرضت قوات الأمن حصارًا على الجزيرة، مما أثار غضب السكان، الذين عبروا عن رفضهم القاطع لهذا التصرف من خلال تنظيم احتجاجات.

ويروي أحد سكان الجزيرة، صلاح عبداللطيف، أحد رجال التربية والتعليم، بأن الأحداث بدأت عندما منعت قوات الأمن شاحنة محملة بمواد بناء من دخول الجزيرة عبر معدية دمنهور شبرا. وهي النقطة الوحيدة المتاحة لنقل المواد الأساسية إلى الجزيرة المحاصرة أمنيًا على مدار الساعة.

وأكد عبداللطيف بأن هذه الإجراءات تمثل جزءًا من محاولات الحكومة المتكررة للضغط على سكان الجزيرة لإجبارهم على الإخلاء.

ويقول: “نحن نملك عقودًا رسمية تعود إلى أكثر من مئة عام، وقد حاولنا مرارًا الدفاع عن حقنا في ملكية هذه الأراضي، لكننا نجد أنفسنا محاصرين بقرارات حكومية تريد إزاحتنا بالقوة لصالح مشاريع استثمارية.”

وأضاف عبداللطيف بأن “هذا القرار التعسفي بمنع البناء جزء من محاولات مستمرة لإجبارنا على ترك منازلنا، وهي ملكيات مسجلة منذ زمن بعيد”. ويؤكد أنه يمتلك عقد ملكية لمنزله منذ عام 1905، وهو واحد من آلاف الأهالي الذين يملكون وثائق ملكية مسجلة في الشهر العقاري.

ووفقًا لمجلس عائلات الوراق، فإن الجزيرة تتألف من حوالي 1295 فدانًا، منها 60 فدانًا فقط مملوكة للدولة، فيما يملك الأهالي باقي المساحة بعقود موثقة. ومع ذلك، فإن مشروع الحكومة لتطوير المنطقة يستهدف 993 فدانًا، ما يعادل 76% من المساحة الإجمالية، وسط رفض شعبي واسع.

تصاعد الاحتجاجات وغياب الحلول

في محاولة للتعبير عن رفضهم للمخططات الحكومية، خرج أهالي الجزيرة في مظاهرات سلمية تطالب بإيقاف الحصار والسماح بدخول مواد البناء.

ويؤكد محسن الجزيري بأن أهالي الجزيرة لا يرفضون فكرة التطوير، لكنهم يطالبون بتعويضات عادلة إذا تم تنفيذ أي مخطط تنموي على أرضهم.

يضيف محمود حسنين، محاسب بإحدى الشركات الخاصة، أن محاولات التفاوض بين السكان والحكومة باءت بالفشل.

ويشير إلى أن “معظم سكان الجزيرة لديهم عقود تسجيل رسمية، ويريدون تعويضات عادلة، لكن التعويضات المقترحة من الحكومة لا تتجاوز النصف مليون جنيه أو الحصول على شقة صغيرة في أحد المشروعات الجديدة، وهو ما لا يعتبر كافيًا بالنسبة لهم.”

بكري أشار أيضًا إلى أن الحكومة عرضت على السكان بدائل تشمل الحصول على سكن جديد داخل الجزيرة، أو التعويض عن الأرض، لكن هذه البدائل لم تُنفذ حتى الآن. ولهذا السبب، لجأ البعض إلى البناء الجديد على الأراضي لضمان حصولهم على تعويضات أعلى في حالة تنفيذ عمليات الإخلاء بالقوة.

التاريخ المتجدد للصراع

بدأ النزاع بين سكان الوراق والحكومة في عام 2017 عندما قُتل أحد السكان خلال احتجاجات ضد محاولات إزالة المنازل.

ومنذ ذلك الوقت، ازدادت حدة الاشتباكات، لا سيما مع قيام قوات الأمن بمحاولات متكررة لهدم المنازل وإجبار الأهالي على الرحيل، وذلك من أجل تمهيد الأرض لمشروعات عقارية تهدف إلى تحويل الجزيرة إلى “مدينة حورس”.

وتعقدت الأمور بشكل أكبر في عام 2022 مع محاولات الحكومة لرفع قياسات الأراضي والمنازل استعدادًا لهدمها. وقد وصف العديد من السكان تلك الإجراءات بأنها تعسفية ولا تراعي حقوق الملكية التي تعود لعشرات السنين.

يقول محمود حسني، موظف بشركة خاصة “أغلب السكان يملكون المنازل بعقود مسجلة، لكن الحكومة لا تستمع لمطالبهم بتعويضات عادلة. لقد حاولنا التفاوض، لكن التعويضات المقدمة هزيلة وغير منصفة، حيث عرضوا نصف مليون جنيه أو شقق صغيرة في حي الأسمرات”.

العنف والإجراءات الحكومية

على مدار السنوات الماضية، استخدمت الحكومة المصرية القوة في عدة مناسبات لإخلاء بعض المنازل في الجزيرة. هذه الاشتباكات التي وقعت بين الأهالي وقوات الأمن في 2017 و2022، أسفرت عن سقوط قتلى واعتقال العديد من السكان.

ويقول أحمد حسن، وهو أحد سكان الجزيرة، إن الحكومة تعامل الأهالي كأنهم “إرهابيون”، مشيرًا إلى أن القوات اقتحمت الجزيرة عدة مرات ومنعت دخول مواد البناء أو إصلاح الصرف الصحي.

ويعتقد حسن بأن استخدام العنف لن يؤدي إلى حل الأزمة، بل سيزيد الأمور تعقيدًا. يقول: “الحكومة تتجاهل مطالبنا، ولم تحاول التفاوض معنا بشكل جدي. لقد حاولنا اللجوء للقضاء، لكن حتى الآن لم نحصل على أي نتائج ملموسة.”

أزمة الملكية والشرعية

ما يزيد من تعقيد الأزمة هو الجدل حول ملكية الأراضي في جزيرة الوراق. فمنذ عام 2002، حاولت الحكومة نزع ملكية الأراضي من السكان، لكن المحاكم المصرية أوقفت تلك المحاولات وأكدت شرعية ملكية السكان للأراضي. سكان الجزيرة يمتلكون عقود ملكية موثقة ومشهر بها في الشهر العقاري، تعود إلى مطلع القرن العشرين.

وفي هذا السياق، نشر المحامي الحقوقي خالد علي تقريرًا مفصلًا تحت عنوان “صراع المساحات: جزيرة الوراق نموذجًا”، يسلط فيه الضوء على الصراع القانوني والملكية بين الحكومة وسكان الجزيرة. التقرير يؤكد أن سكان الوراق يمتلكون أغلب أراضي الجزيرة، باستثناء بعض الأراضي التي تعتبر أملاك دولة، والتي تم تأجيرها للفلاحين بحق الانتفاع.

خطط الحكومة للتطوير

في المقابل، تسعى الحكومة إلى تنفيذ مشاريع تنموية كبيرة على الجزيرة. حيث أصدرت قرارًا في 2018 بإنشاء مدينة جديدة على أراضي جزيرة الوراق، وأطلقت عليه اسم “مدينة حورس”.

وهذا المشروع يشمل إنشاء أبراج سكنية وفنادق فاخرة بتكلفة تصل إلى 17.5 مليار جنيه. وفي يوليو 2024، تم الإعلان عن توقيع اتفاقية مع شركة إماراتية لتنفيذ مشروع عقاري كبير يشمل إنشاء أبراج سكنية وتجارية على الجزيرة.

الحكومة بررت هذه المشاريع بأنها تهدف إلى تطوير المناطق غير المخططة وتحسين جودة الحياة، لكنها تواجه انتقادات شديدة من السكان الذين يرون في هذه المشاريع تهديدًا لوجودهم ومصدر رزقهم.

مشروعات استثمارية وطموحات حكومية

بالتزامن مع تلك التوترات، وقعت مجموعة صفوت القليوبي المصرية وشركة إماراتية اتفاقًا لتنفيذ مشروع عقاري ضخم يشمل إنشاء أبراج سكنية وتجارية وفندق فاخر في المنطقة المطلة على جزيرة الوراق. تبلغ تكلفة المشروع 24 مليار جنيه مصري، وهو ما أثار المزيد من الشكوك بين السكان حول نوايا الحكومة الحقيقية.

ويشير سكان الجزيرة إلى أن الحكومة تسعى بكل الوسائل إلى إخلاء الجزيرة وتسليمها للمستثمرين الأجانب دون مراعاة حقوقهم التاريخية. ويقول أدهم الشرقاوي أحد سكان الجزيرة “تريد الحكومة طردنا من بيوتنا لصالح المستثمرين. لقد ورثنا هذه الأرض عن أجدادنا، ولكنهم يتعاملون معنا كما لو كنا متعدّين على ممتلكات الدولة”.

معاناة الأهالي ومحاولات الصمود

وتعود جزيرة الوراق، الممتدة على مساحة 1295 فدانًا، إلى واجهة الأحداث مرة أخرى، حيث يعيش سكانها في عزلة شبه تامة عن البر الرئيسي، وتعتمد حياتهم البسيطة على الزراعة والصيد.

ولكن منذ عام 2002، تصاعدت محاولات رجال الأعمال للاستيلاء على أراضي الجزر الواقعة في نهر النيل، ومنها الوراق، بهدف تحويلها إلى منتجعات سياحية فاخرة، مما أثار غضب السكان.

تتذكر سعاد محمد، ربة منزل، كيف بدأ الصراع عندما أصدرت الحكومة في عام 2002 قرارًا بطرد السكان بحجة أنهم “بلطجية” يستولون على أراضي الدولة، لكن السكان رفعوا دعوى قضائية وأثبتوا حقهم في الأرض.

وتقول سعاد: “هذه ليست المرة الأولى التي نحارب فيها من أجل أرضنا. لقد حاولوا طردنا من قبل، لكننا نجحنا في إثبات ملكيتنا بأمر محكمة”.

وفي كل مرة تجدد فيها الحكومة محاولاتها، يتصدى السكان لها. فمنذ 2017 ونحن نعيش في حالة من التوتر الدائم. كلما حاولت الحكومة الاقتراب من أرضنا، خرجنا للدفاع عنها. لن نغادر إلا إذا قتلونا

رأي الخبراء والمهتمين

يرى الدكتور علاء عبدالمجيد، أستاذ التخطيط العمراني بجامعة القاهرة، أن الحل يكمن في فتح قنوات حوار فعالة بين الحكومة والسكان، حيث يقول: “لا يمكن تحقيق التنمية على حساب حقوق المواطنين. يجب أن تكون هناك تسويات عادلة تعوض السكان بشكل يتناسب مع قيمة الأراضي والمنازل التي سيتم إخلاؤها.”

عبد المجيد أشار إلى ضرورة تبني سياسات تنموية تتوافق مع الطابع الاجتماعي للجزيرة وتحافظ على حقوق سكانها. ويقول: “يمكن تحويل الوراق إلى منطقة استثمارية، ولكن يجب أن يتم ذلك بمشاركة السكان في عملية صنع القرار، وتوفير بدائل عادلة لهم.”

من جهة أخرى، يقول محمد السيد، الباحث في الشؤون الاقتصادية، إن الأزمة في جزيرة الوراق تعكس نموذجًا للصراع بين الدولة والمواطن في كثير من المناطق الأخرى في مصر. السيد يعتقد أن استخدام القوة لن يؤدي إلا إلى تصعيد الأزمة، ويجب البحث عن حلول سلمية تأخذ في الاعتبار احتياجات المواطنين ومطالبهم.

الرأي العام وأزمة الوراق

منذ بداية الأزمة، أثارت أحداث الوراق ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام. يقول أحمد صابر، مواطن مصري يتابع القضية: “الحكومة تتحدث عن التنمية، لكن ما يحدث هو طرد سكان منازلهم لصالح مشروعات استثمارية. كيف يمكن تسليم أرض للمستثمرين على حساب المواطنين البسطاء الذين عاشوا هنا لعشرات السنين؟”.

ويوضح المحامي خالد علي أن القضية ليست مجرد نزاع على الأراضي، بل هي “معركة بين حقوق الإنسان والطموحات الاستثمارية”. ويضيف: “الحكومة تروج للمشروعات الاستثمارية كسبيل لتحقيق التنمية، ولكن السؤال هو: هل يمكن تحقيق التنمية على حساب تشريد السكان المحليين؟”.

الموقف القانوني: صراع على المساحات

ويوضح المحامي خالد علي، وهو أحد المدافعين عن حقوق سكان الوراق، بأن الوضع القانوني للجزيرة معقد، ولكنه يميل لصالح الأهالي. في عام 2001، صدر قرار من مجلس الوزراء بعدم جواز إخلاء أي مبنى مقام بجزيرتي الوراق والدهب، وجاء هذا القرار في أعقاب نزاع قانوني استمر سنوات.

ويضيف علي: “الأهالي يمتلكون عقودًا رسمية تعود لعقود طويلة، والحكومة لم تلتزم بقرارات المحاكم التي تحمي حقوقهم. ما يحدث الآن هو انتهاك صريح للقانون والدستور”.

وقد حاولت الحكومة تقديم تعويضات مالية للسكان، إلا أن الغالبية العظمى رفضت تلك العروض، معتبرين أن قيمتها لا تعوض الخسائر الحقيقية التي سيتكبدونها إذا تم تهجيرهم من منازلهم.

مستقبل الأزمة: ما الحل؟

في ظل تصاعد الاحتجاجات والاشتباكات، يبدو أن أزمة جزيرة الوراق لا تزال بعيدة عن الحل. ومع استمرار الحكومة في تنفيذ خططها التنموية، يظل السكان متمسكين بحقهم في البقاء على أرضهم.

الخلاف الأساسي يكمن في كيفية تحقيق التوازن بين أهداف الحكومة التنموية وحقوق السكان. الخبراء والمختصون يجمعون على ضرورة الحوار والبحث عن حلول وسط تضمن تحقيق التنمية دون إهدار حقوق المواطنين.

في نهاية المطاف، أزمة الوراق ليست مجرد نزاع على ملكية أراضٍ، بل هي انعكاس لصراع أكبر بين الدولة والمواطن حول الحقوق والعدالة والتنمية. ومن غير المرجح أن تُحل هذه الأزمة قريبًا ما لم تتخذ الحكومة خطوات جادة لفتح حوار شفاف مع سكان الجزيرة وتقديم تعويضات عادلة ومرضية لهم.

الأهالي بين الأمل والصمود

يبدو أن سكان الوراق ليسوا مستعدين للاستسلام بسهولة. يختتم عبد الكريم حديثه قائلاً: “نحن نعيش هنا منذ أجيال، ولن نترك أرضنا بهذه البساطة. إذا كانت الحكومة تريد حقًا تطوير الجزيرة، فعليها أن تقدم لنا البدائل التي تضمن حقوقنا. نحن لسنا ضد التطوير، لكننا ضد أن نُطرد من بيوتنا ونُلقى في الشارع.”

وتظل أزمة جزيرة الوراق نموذجًا حيًا للصراع بين التنمية وحقوق المواطن، في حين يتساءل الجميع: إلى متى سيستمر هذا الصراع؟ وهل ستنجح الحكومة في إقناع السكان بمغادرة الجزيرة طواعية؟

مستقبل جزيرة الوراق

مع تصاعد التوترات بين الأهالي والحكومة، يبقى مستقبل جزيرة الوراق معلقًا في الميزان. يرى الكثيرون أن الحل يجب أن يكون بالتفاوض والالتزام بالقانون، وليس باللجوء إلى القوة.

ويشير مصطفى حسن، خبير تخطيط عمراني، إلى أن “التنمية الحقيقية يجب أن تراعي حقوق السكان المحليين، وليس فقط المصالح الاستثمارية. يمكن أن تنجح الحكومة في تحقيق أهدافها، ولكن دون التضحية بحقوق الناس”.

ويطالب سكان الجزيرة الحكومة بفتح حوار جاد معهم للوصول إلى حلول وسط. يقول صلاح عبدالكريم: “نحن لا نعارض التطوير، ولكن نريد ضمان حقوقنا في التعويض العادل والحفاظ على إرثنا الذي توارثناه عن آبائنا وأجدادنا”.

ولا تزال جزيرة الوراق تمثل نموذجًا للصراع بين حقوق الملكية الخاصة ومشروعات التنمية الحكومية، حيث يبقى السؤال: هل يمكن تحقيق التوازن بين التنمية والعدالة؟

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى