مقالات ورأى

يوسف عبداللطيف يكتب: هل ماتت الطبقة الوسطى .. الفن يُعيد كتابة مصيرنا

نعيش في زمن غريب، يختلط فيه الماضي بالحاضر وتتشوش فيه الهوية الفردية والجماعية. هناك لحظات نعود فيها إلى الوراء، نتأمل كيف كنا، وما الذي كنا نعتبره “طبيعيًا”، ثم ندرك فجأة أننا في مكان مختلف تمامًا.

نتذكر تلك الأيام عندما كان برنامج “العاشرة مساءً” على قناة دريم هو مرآة تعكس هموم الشارع المصري. كان هناك ما يُسمى بالطبقة الوسطى، طبقة تمتلك صوتًا ومكانة، حتى لو كانت مضطربة.

وفي تلك الأوقات، جلست منى الشاذلي مع مفكرين، وكُتاب، وفنانين مثل دكتور جلال أمين ونور الشريف، يحللون تحولات الطبقة الوسطى، التي كانت تترنح بالفعل على حافة الانهيار. واليوم، نجد أنفسنا نبحث عن تلك الطبقة وكأنها شبح قد مضى.

الفنان نور الشريف حين تحدث عن فيلم “دماء على الأسفلت”، وهو رؤية جديدة لرواية نجيب محفوظ “بداية ونهاية”، كان يقدم لنا ليس مجرد تحليل سينمائي، بل تأمل عميق في تغييرات الإنسان، وتغيرات المجتمع.

والفرق الجوهري الذي رآه نور بين بطلي العملين “سناء وحسنين” يعكس تلك الفروق الصغيرة التي تغير التاريخ، وتغير رؤيتنا للحياة.

وحسنين في رواية نجيب محفوظ لا ينتحر، بل يظل يفكر في مصيره؛ بينما في الفيلم، يموت جسديًا وروحيًا. هذه الفروق الصغيرة التي تضيفها الفنون على الواقع، والتي تعيد تفسير الماضي بطريقة تُشعرك أن الحاضر يمكن أن يُعاد كتابته.

الفن، سواء في الرواية أو الفيلم، هو انعكاس لتلك التغيرات. ليس مجرد وسيلة لتسلية الجمهور، بل هو إعادة صياغة لواقع لا نفهمه أحيانًا، أو ربما لا نرغب في مواجهته.

ونور الشريف رأى أن في لحظة موت ولاء في “دماء على الأسفلت”، كان هناك اختلاف جوهري عن الرواية، لأن البطل لم يتخلَ عن أخته.

وهذه اللمسة الإنسانية، هذه القرارات الدقيقة، هي ما تميز الفن العظيم عن الواقع البارد. في المقابل، حسنين في “بداية ونهاية” يترك أخته تنتحر. كأن الفنانين أرادوا أن يعكسوا لنا الفرق بين الإدانة والرحمة، بين الحتمية والاختيار.

نحن اليوم نقف أمام تساؤلات مشابهة. هل ما يحدث حولنا هو مجرد إعادة لأحداث قديمة، أم أننا نعيد كتابة مصيرنا؟ في فيلم “عودة مواطن”، نرى تلك التيمة مرة أخرى.

وسقوط الأسرة، عودة البطل إلى الغربة، ترك الإخوة يتخبطون في متاهة الحياة. الفن هنا لا يخبرنا بما يجب أن نفكر فيه، لكنه يضع أمامنا مرآة، مرآة تعكس كيف يمكن أن تكون النهايات، وكيف يمكن أن تختلف الروايات.

كل هذا يدفعنا إلى التساؤل عن المستقبل. وهل يمكننا حقًا إعادة كتابة الماضي بطريقة تنقذ الحاضر؟ أم أن كل محاولاتنا هي مجرد استحضار لأشباح لا تزال تطاردنا؟

نعيش في مجتمع يُحكم علينا فيه بناءً على الماضي، ولكننا نحاول إعادة صياغته من خلال الفن، من خلال إعادة التفكير في الحكايات التي تشكلنا.

الحياة ليست مجرد تسلسل للأحداث، إنها سلسلة من التفاسير والتأويلات. وهذا هو جوهر ما أراه في حديث نور الشريف عن الفرق بين “دماء على الأسفلت” و”بداية ونهاية”.

وهو ليس مجرد مقارنة بين رواية وفيلم، بل هو دعوة لإعادة التفكير في مصائرنا، في الخيارات التي نتخذها يوميًا، في كيفية إعادة صياغة حياتنا بشكل يجعلها أكثر رحمة وإنسانية.

ربما هذا هو ما نحتاج إليه اليوم. نوع جديد من التفكير، يعيد ترتيب حياتنا المتشابكة، يشير إلى الأخطاء التي وقعنا فيها ويعطينا أملًا بأننا يمكننا تغييرها.

ونحن في حاجة إلى نظرة جديدة، نظرة تضع الرحمة فوق الحتمية، وتعيد لنا الإيمان بأننا قادرون على كتابة نهايات مختلفة، حتى لو كانت القصة نفسها قديمة.

وهذا هو الدرس الذي يمكن أن نستفيده من نور الشريف، ومن كل فنان يحاول إعادة صياغة الماضي بطريقة تفتح لنا أبواب الحاضر والمستقبل.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى