مصرمقالات ورأى

المعتصم الكيلاني يكتب: ضحايا الاختفاء القسري في سوريا.. جرح نازف في قلب العدالة الإنسانية

ضحايا الاختفاء القسري في سوريا: جرح نازف في قلب العدالة الإنسانية

في أروقة السجون السورية، يتردد صدى صرخات مئات الآلاف من الضحايا الذين ابتلعهم الظلام دون أثر. منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، أصبح الاختفاء القسري أداة منهجية يستخدمها النظام السوري لقمع المعارضة وترهيب الشعب.

يشير تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية إلى أن سوريا تعد واحدة من الدول الأكثر تورطًا في جرائم الاختفاء القسري على مستوى العالم، ما لا يقل عن 154,000 شخص تعرضوا للاختفاء القسري في سوريا منذ مارس 2011،

يُحمَّل النظام السوري المسؤولية عن اختفاء حوالي 135,000 شخص، أي ما يعادل حوالي 87% من مجموع الحالات الموثقة، أما بقية الحالات، فتتقاسمها أطراف النزاع الأخرى مثل تنظيم “داعش”، وقوات سوريا الديمقراطية، وجبهة النصرة، وبعض الجماعات المسلحة المعارضة.


اما الامم المتحدة وعبر لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية فذكرت ان أكثر من 100,000 شخص يُعتقد أنهم مختفون قسريًا في سوريا، وان العدد الحقيقي قد يكون أكبر بكثير بسبب عدم القدرة على الوصول إلى جميع المناطق لتوثيق الانتهاكات بشكل كامل.

نماذج واقعية للاختفاء القسري
باسل خرطبيل: عقل نير في ظلمات السجون


باسل خرطبيل (المعروف أيضًا باسم باسل الصفدي)، كان مبرمجًا سوريًا من أصل فلسطيني وناشطًا في مجال حقوق الإنسان وحرية الإنترنت. في 15 مارس 2012،

اعتقلته قوات الأمن السورية في دمشق، ليختفي عن الأنظار بعد فترة وجيزة. بعد ثلاث سنوات من اختفائه، في عام 2015، نُقل باسل إلى مكان غير معروف، قبل أن يُعلن عن إعدامه في وقت لاحق من نفس العام، دون تقديم أي تفاصيل لأسرته أو للرأي العام عن مكان وزمان وفاته.


كان باسل رمزًا للإبداع والحرية، وغيابه كان بمثابة ضربة قاسية للمجتمع التكنولوجي العالمي وللأمل في مستقبل أكثر إشراقًا في سوريا. قضيته تسلط الضوء على كيفية استهداف النظام السوري ليس فقط للمعارضين السياسيين، ولكن أيضًا للعقول النيرة التي قد تُساهم في بناء مجتمع مدني حر ومستنير.
” اضافة صورة “

قضية مازن حمادة: صوت لا يُسكت


مازن حمادة، ناشط سوري من دير الزور، كان شاهدًا على جرائم لا تُنسى. في عام 2012، أُلقي القبض عليه من قبل قوات الأمن السورية، وتعرض لأبشع أنواع التعذيب في سجن الفرع 215 بدمشق.

بعد إطلاق سراحه عام 2014، فرّ مازن إلى أوروبا وبدأ في الكشف عن جرائم النظام السوري في وسائل الإعلام الدولية. وفي عام 2020، عاد مازن إلى سوريا بشكل غير متوقع بعد تلقيه تطمينات غامضة، لكنه اختفى مرة أخرى منذ ذلك الحين، ولم يُعرف مصيره حتى اليوم.
” اضافة صورة “

اختفاء رزان زيتونة: أيقونة الحرية المفقودة


في ديسمبر 2013، اختُطفت رزان زيتونة، المحامية والناشطة الحقوقية المعروفة، مع زملائها في دوما، في الغوطة الشرقية ويعتقد انه من قبل سلطات الامر الواقع الحاكمة في تلك المنطقة انذاك “جيش الاسلام ” .

رغم مرور أكثر من عقد على اختفائها، لا يزال مصير رزان وزملائها مجهولًا. يُعتبر اختطاف رزان مثالًا على كيف يمكن للاختفاء القسري أن يستهدف ليس فقط الأفراد، بل أيضًا أصوات الحرية والعدالة.
” اضافة صورة “

الاختفاء القسري وفق القانون السوري والاتفاقيات الدولية
القانون السوري: غياب العدالة


يتجاهل النظام السوري، إلى حد كبير، الجرائم المرتبطة بالاختفاء القسري. فبالرغم من وجود نصوص قانونية تجرّم الاعتقال غير القانوني أو التعذيب في الدستور السوري،

إلا أن الواقع يُظهر أن هذه القوانين لا تُطبَّق، وأن القضاء السوري يخضع بشكل كامل لسيطرة الأجهزة الأمنية. يُعد عدم محاسبة مرتكبي جرائم الاختفاء القسري جزءًا من آليات ترسيخ السلطة والترهيب التي يعتمدها النظام،

بل على العكس هناك عدة قوانين ومراسيم تحمي العاملين في جهاز أمن الدولة من المحاسبة، مما يساهم في إفلاتهم من العقاب. من بين أبرز هذه القوانين:

  1. المرسوم التشريعي رقم 14 لعام 1969:
    ○ أنشأ هذا المرسوم إدارة المخابرات العامة في سوريا ومنحها صلاحيات واسعة. يحظر المرسوم مقاضاة عناصر الأمن أو محاكمتهم عن أي أعمال ترتكب “أثناء تنفيذهم لمهامهم” إلا بموافقة من رئيس المخابرات العامة. هذا الشرط يجعل من الصعب جدًا على القضاء محاسبة أفراد الجهاز الأمني.
  2. المرسوم التشريعي رقم 69 لعام 2008:
    ○ وسّع هذا المرسوم نطاق الحماية ليشمل جميع أفراد قوى الأمن الداخلي وضباطها، حيث يمنع محاكمتهم على الجرائم التي يرتكبونها أثناء أداء مهامهم إلا بموافقة رؤسائهم.
  3. المرسوم التشريعي رقم 55 لعام 2011:
    ○ تم إصداره في بداية الانتفاضة السورية، ويعزز الحماية القانونية للعاملين في الأجهزة الأمنية من الملاحقة القانونية، مما أعطى مزيدًا من الحصانة للعاملين في أجهزة الأمن.
    هذه القوانين تُبقي أفراد الأجهزة الأمنية فوق المساءلة القانونية، مما يعزز مناخ الإفلات من العقاب في سوريا ويعوق العدالة الانتقالية في البلاد.

الاختفاء القسري في ضوء القانون الدولي


وفقًا للاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، والتي دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر 2010، فإن الاختفاء القسري يُعتبر جريمة ضد الإنسانية عندما يُمارَس بشكل منهجي. ورغم أن سوريا لم تصادق على هذه الاتفاقية، فإن الانتهاكات الواسعة التي ترتكبها القوات الحكومية السورية تجعلها تخضع للمساءلة بموجب القانون الدولي العرفي، وهو ما أكدته لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا.
تهدف الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري” التابعة للأمم المتحدة إلى منع الاختفاء القسري المحدد في القانون الدولي.

وتعرف المادة “2” الاختفاء القسري من الاتفاقية بأنه الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، ما يحرمه من حماية القانون.

ويقع على عاتق الدولة اتخاذ التدابير الملائمة للتحقيق في التصرفات المحددة بالمادة “2”، التي يقوم بها أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون دون إذن أو دعم أو موافقة من الدولة، وتقديم المسؤولين إلى المحاكمة.

تقرير لجنة الأمم المتحدة – لجنة التحقيق المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية الصادر في ١٧ حزيران للعام ٢٠٢٢أكد أن الحكومة السورية تتحمل المسؤولية الرئيسية عن الاختفاء القسري في البلاد. وقد وثقت اللجنة مئات الحالات التي تشير إلى استخدام هذه الجريمة كأداة للقمع السياسي والاجتماعي، مشيرة إلى أن هذه الأفعال تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني.

توصيات لمواجهة الاختفاء القسري وضمان العدالة الانتقالية


من الضروري أن يستمر المجتمع الدولي في الضغط على النظام السوري للكشف عن مصير المختفين قسريًا. يجب على الأمم المتحدة والدول الفاعلة أن تضع هذه القضية على رأس أولوياتها، من خلال فرض عقوبات على الأفراد والكيانات المتورطة في هذه الجرائم.
على الرغم من غياب الإرادة السياسية داخل سوريا، يجب دعم الآلية الدولية المنشئة حديثاً في حالات الاختفاء القسري. مثل هذه الآلية يجب أن تكون مستقلة ولها الصلاحيات اللازمة للوصول إلى الوثائق والأدلة، بالإضافة إلى الشهادات من الناجين وعائلات الضحايا، كما وتحتاج عائلات المختفين إلى دعم نفسي وقانوني. يجب أن تعمل المنظمات الدولية والمحلية على تقديم المساعدة اللازمة لعائلات الضحايا، بما في ذلك الدعم في تقديم الشكاوى القانونية إلى الهيئات الدولية. وبالتاكيد لا يمكن تحقيق العدالة دون توثيق شامل للجرائم. يجب على المنظمات الحقوقية الاستمرار في جمع الأدلة والشهادات لتقديمها في المستقبل إلى محاكم دولية أو لجان عدالة انتقالية.
ويشكل الكشف عن مصير المختفين قسريًا جزءًا لا يتجزأ من عملية العدالة الانتقالية في سوريا. يجب أن تكون هناك آلية واضحة للتحقيق في هذه الجرائم ومعاقبة المسؤولين عنها. العدالة الانتقالية تتطلب أيضًا إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية لضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل.

نحو سلام مستدام


يظل الاختفاء القسري جرحًا نازفًا في قلب المجتمع السوري، وجريمة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها في مسار تحقيق السلام والعدالة في سوريا المستقبل. إن الكشف عن مصير المختفين ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم يمثلان خطوة أساسية نحو إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري، وضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل. تحقيق ذلك يتطلب تعاونًا دوليًا وجهودًا مستمرة من قبل المجتمع المدني، لتقديم الدعم لعائلات الضحايا والعمل على بناء مستقبل أكثر عدلاً وإنسانية في سوريا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى