مقالات ورأى

يوسف عبداللطيف يكتب: من عروش الصحافة إلى طابونة المصالح

عندما بدأت مشواري في الصحافة، كنت شابًا صغيرًا يخطو أولى خطواته في عالم مليء بالأسرار والتحديات.

كنت أعمل تحت إشراف كبار الصحفيين الذين علموني ألا أكتب إلا ما يمليه عليّ ضميري، وأن أكون صادقًا مع نفسي ومع قرائي.

وأول من أثر في حياتي المهنية كان الكاتب الصحفي الكبير مجدي مهني، عندما عملت معه في جريدة “وفد الصعيد”، علمني درسًا مهمًا ما زال يرافقني حتى اليوم الصحفي الحقيقي لا يمدح الشخص الذي لا يستطيع مهاجمته،

والصحفي الجيد لا يبيع قلمه لأحد. هذه الدروس أضحت معيارًا لمبادئي المهنية، ودليلاً لمساري.

لكن، مع مرور السنين، اكتشفت أن الدرس الذي تعلمته من مجدي مهني لم يكن كاملاً. وبعد 34 عامًا من العمل في هذه المهنة، أدركت أن هذا الدرس له بُعد آخر أعمق الشخص الذي لا أستطيع مهاجمته، لن أمتدحه مهما كان.

فالصدق هو أساس هذه المهنة، والصدق لا يعني فقط الكتابة بما تؤمن به، بل يعني أيضًا الابتعاد عن المجاملات الزائفة والتملق الكاذب.

عندما عملت مع الكاتب الصحفي الكبير سعيد عبد الخالق، تعلمت أن الصحفي الذي يستحق اسمه هو الصحفي الذي يعمل في الشارع، الذي يرى هموم الناس بعينيه ويعيش معهم مشاكلهم.

وهذا ما كان يفعله دائمًا أستاذي محمد أمين، الذي علمني كيف أنزل إلى الميدان، وكيف أصنع من كل تحقيق صحفي قصة تنبض بالحياة،

وكيف أحول التقارير إلى مرآة تعكس معاناة المواطن المصري البسيط. الصحافة ليست مهنة المكاتب، إنها مهنة الشارع والميدان، حيث تُصنع الأخبار الحقيقية.

ثم جاء نادر ناشد، رئيس تحرير “وفد أسوان”، الذي علمني درسًا آخر، درسًا في التعامل الإنساني قبل أن يكون درسًا في الصحافة.

كان نادر ناشد رجلًا دمث الخلق، علمني كيف أتعامل مع السيئة بالحسنة، وكيف أظل ثابتًا في مواقفي حتى لو اختلفت الظروف.

وفي زمن مليء بالمنافسة، كان نادر نادرًا حقًا، بشخصيته التي كانت تجمع بين الحزم والرحمة.

وعندما عملت مع عبدالنبي عبدالستار، تعلمت كيف أكتب العناوين الجريئة التي تترك أثرًا، وكيف أجعل كل كلمة في العنوان تحفر في ذهن القارئ.

لن أنسى أبدًا تلك المرة التي نشرت فيها حوارًا مع الفنانة يسرا، حوار أثار جدلاً واسعًا بسبب العنوان الذي وضعته.

لولا تدخل أستاذي عدلي المولد، رئيس مجلس إدارة “صوت الأمة”، لكنت اليوم ربما في مكان آخر، مكان لا أريده.

وفي مقابل كل هؤلاء العمالقة الذين تعلمت منهم، أجد نفسي اليوم في مواجهة مع جيل جديد من رؤساء التحرير الذين لا يفقهون شيئًا في هذه المهنة.

هؤلاء جاءوا من العدم، جلسوا على كراسي العظماء في غفلة من الزمن. رئيس تحرير واحد منهم جاء من بلدته كمجرد كومبارس، ولكن فجأة وبدون سابق إنذار، أصبح رئيس تحرير لأكبر جريدة في مصر.

هل ارتقت الصحافة؟ بالطبع لا، بل انهارت تحت يديه. وآخر جاء من قريته ليجلس على رأس تحرير جريدة كبرى أيضًا، وكان يتعامل وكأنه صاحب طابونة، وليس رئيس تحرير.

فهل هذا هو المستقبل الذي نريده للصحافة؟ هل هذه هي المهنة التي تعلمنا فيها الأمانة والصدق؟

بل والأدهى من ذلك، رئيس تحرير آخر رفض نشر مقالاتي لمجرد أنني رفضت أن أهاجم صديقي الحبيب الدكتور ياسر الهضيبي. طلب مني أن أكتب تقريرًا مليئًا بالافتراءات ضده فقط ليبتزه ماليًا، وعندما رفضت، اتخذ قرارًا بمنعي من نشر مقالاتي.

هذا هو حال الصحافة اليوم، صحافة قائمة على المصالح الشخصية والابتزاز، لا على القيم والمبادئ التي تعلمناها في زمن العمالقة.

وهذا هو الفارق بين الصحافة التي تعلمتها وبين ما أراه اليوم. كنت دائمًا أدافع عن قضايا الشعب والمجتمع، وما زلت أؤمن أن الصحافة الحقيقية هي التي تقف في صف المظلومين.

وهذه المهنة ليست فقط وسيلة لنقل الأخبار، إنها سلاح في يد من يعرف كيف يستخدمه.

لذلك، أقول بكل صدق: لو عاد بي الزمان إلى الوراء، ربما كنت سأختار أن أصبح محاميًا، لأنني أدركت أن الدفاع عن الحق ليس مقتصرًا على المحاكم فقط، بل هو جوهر مهنة الصحافة الحقيقية أيضًا.

ولا يمكنني إلا أن أشعر بالأسى لما آلت إليها الصحافة اليوم .. فالصحافة التي عرفتها كانت مهنة البحث عن المتاعب، مهنة تتطلب شجاعة وجرأة واستعدادًا لتحمل النتائج.

أما اليوم، فهي مهنة المصالح الشخصية، مهنة الصفقات والابتزاز. ومن المؤسف أن نرى هؤلاء الذين لا يستحقون يعتلون مناصب القيادة في الصحف الكبرى، بينما يقبع الصحفيون الحقيقيون في الظل، يكافحون للحفاظ على ما تبقى من كرامة هذه المهنة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى