د. أيمن نور يكتب: أوراق من مذكراتي (8) وصيتي وقبر أمي
كلما أعاود التفكير مرارًا وتكرارًا فيما مضى من سنوات العمر، أعيد دائمًا الكثير من حساباتى الشخصية والعامة،
هذا العام، الذي استقبل في نهايته عامي ال٦٠شرعت في أعاده كتابة وصيتي
التي ربما لم يأتي وقت نشرها.
لكن ما أستطيع أن أكشف عنه الآن فقط هو رغبتى أن أُدفن إلى جوار أمى – (إذا تيسر هذا) –وإن لم يتيسر فارض الله أوسع ان تضيق بقبري الذي بحثت مؤخرا
عن بديلا له في اسطنبول الي جوار قبر عبدالله النديم وعبد الفتاح كيره
عندما توفيت أمي – رحمة الله عليها – أثناء جراحة بالقلب في لندن تجمدت دموعي في هذا اليوم .
لكني منذ ذلك اليوم الذي مر عليه ٣٠عاماً ، لم يمضي يوماً إلا بكيت عليها ،
لا أكاد أجلس وحدي إلا وأجد صورتها تملأ قلبي وكثيراً ماتغرق عيناي بالدموع ..
منذ خروجي من سجني، وقبل خروجى من مصر، كان لايمضي أسبوعا دون أن أذهب إلى قبرها ، ولا أعرف سر إرتباطي بهذا المكان، في عمق مدافن منارة الأسكندريه ،
أحياناً أشعر أني عشت فيه وفي كثير من الأحيان أشعر بالحنين لمكان قد تطول إحدي زياراتي له إلى الأبد ..
فى ذلك الحين، كانت قد بدأت تربطني بالمكان وسكانه علاقات خاصه جداً ، بل أتعمد أحياناً أن أحسن علاقاتي الشخصية مع المسئولين تحديدا عن عمليات الدفن
إلي حد أني أفطرت معهم يوماً في آخر رمضان لى بمصر.
رحلتي إلى المنارة كانت لها محطات ، في الدخول والخروج
كنت أتوجه مباشرة لقبر أمي شوقاً وشغفاً بلقاء دافئ بين أقرب حبيبين ، وفي الخروج أزور عدداً من الأصدقاء والأحباء أمثال الأستاذ عادل عيد النائب الراحل العظيم ورجل الشرف والمثل والمبادئ الذي تعلمت منه ولا زلت رغم وفاته وأنا في سجني .
كنت أزور قبر خالد سعيد رغم شعوري برائحة نفاذه تدخل إلى أنفي وصدري في كل زيارة لقبره الصغير – ربما لعلمي بإخراج جثة الشهيد خالد بعد أيام من دفنها الأول ، وأزور أيضاً قبر جدي لوالدتي محمد محمود حسنين رئيس بلدية المنصورة والأديب والشاعر والمفكر الذي أهمله التاريخ ..
رحلتي الأسبوعية إلى منارة الأسكندرية كانت هي الرحلة الوحيدة التي أفضل أن أذهب إليها منفرداً ، وكثيراً ما كنت أفضل أن أقود سيارتي بنفسي – خلافاً للمعتاد –
أحياناً ما أتوقف في الطريق ، لأن الدموع التي تتراقص في عيني تمنعني من القيادة ، وكثيراً مارآني أصدقائي ومحبين من أهل الأسكندرية وسألوني إن كنت في حاجة إلى مساعدة فأقول لأ شكراً فأنا ذاهب إليها ،
فمن يساعدني على نفسي غير نفسي التي أحدث غيابها أكبر فراغ عاطفي في حياتي ..
أسأل نفسي – أحياناً – لماذا تبكي ؟ هل علي الفراق ؟
أم من أثر الفراغ الذي أحدثه غيابها ؟ أم تبكي على ذكريات العمر ؟ أم تبكي لأنك بحاجة أن تبكي ؟ و ربما لكل الأسباب السابقة ، وغيرها أيضاً ؟!
. صحيح كانت أمي تعيش في المنصوره وكنت في أخر 12 عاماً قبل وفاتها أعيش بالقاهرة . فلم أكن أراها كل يوم ، ربما مره أو مرتين في الشهر لكني كنت أسمع صوتها شبه يومياً ، كانت هي رنة التليفون الأولى تعليقاً على مقالي اليومي .
أكثر لحظة بكيت فيها على أمي لم تكن لحظة فراقها ولا توديعها وهي ترقد في مرقدها الأخير بل كانت بعد ذلك بشهور
حيث كنت أناقش رسالة الدكتوراه في عام 1995 ، وعقب صدور وإعلان النتيجة من لجنة الإختبار وجدت نفسي انطلق خارج معهد الإستشراق متجهاً بسرعه لمنطقة الميدان الأحمر ،
قطعت المسافة التي تستغرق 15 دقيقة في أقل من خمسة دقائق ، وصعدت للدور الثاني في فندق كبير هو فندق بلجراد حيث دخلت لمركز الاتصالات الدوليه بالفندق وأعطتني الموظفة خطاً دولياً فوجدت نفسي أدير بإصبعي قرص التليفون طالباً كود مصر ثم كود المنصورة ثم 3 ، ثم 3 ثم ، وفجأة توقفت وانهمرت دموعي .
كنت أدير قرص التليفون لأطلب رقم أمي التي رحلت قبل هذا اليوم بشهور طويلة ولم أشعر بوفاتها بشكل حقيقي إلا في هذه اللحظه ..
ليس صحيحاً أننا نحتاج من نحب فقط في الضيق بل نحتاجهم أكثر كي نشعر بالفرح بالنصر بالأمل .
أمي هي تاريخ الفرح في حياتي فهي التي تعذبت وضحت بالكثير كي تنجبني رغم مرضها القديم بالقلب الذي كان يمنعها من هذه المخاطرة ..
وهي التي عاشت سنوات عمرها بقلب عليل لا يصح وينتظم إلا بالفرح معي أو من أجلي ..
كانت أمي تحلم أن أنهي دراسة الدكتوراه التي تأخرت في دخول اختباراتها النهائية عام كامل وكانت تحلم أن أصبح مثل والدي أصغر نائب في البرلمان ..
ماتت أمي عام 1994 وحققت أحلامها في 1995
أحسب أن بكائي عليها لأنها لم تتمكن من أن تشاطرني أفراحي
ولكن لدي أسباب تجفف دموعي وهي أنها لم تشاطرني أيضاً أوجاعي الأخيرة في سجني ثم في منفاي .
لو كان لي أن أتمني شيئاً ماكنت تمنيت أكثر من أن تموت أمي قبل يوم واحد من ذلك اليوم الذي اكون فيه انا وهي علي قيد الحياه ولا نملك ان نلتقي.
د. أيمن نور