مصرمقالات ورأى

د. سميرالوسيمي : مخاطر التوسع في أذون الخزانة على الدين العام للدولة: مصر نموذجاً

أعلم بداية أن الحديث في الاقتصاد هو أمر معقد وغير مستحب لدى العديد من القراء الكرام، ولكني سأجتهد في هذا المقال أن أكون محدداً وبسيطاً -قدر المستطاع- لتوصيل فكرة المقال برشاقة، وخاصة لتعلقها بأمر مهم وهو أذون الخزانة وبخاصة في بلد مهم عربياً وإقليمياً ودولياً وهو مصر.

تواجه مصر اليوم تحديات اقتصادية كبيرة، تتعلق بزيادة الدين العام والعجز في الموازنة العامة، ما دفع الحكومة إلى الاعتماد بشكل متزايد على أدوات مالية مثل أذون الخزانة. في هذا المقال،

سأتناول مخاطر التوسع في إصدار أذون الخزانة وتأثيره على الدين العام والاقتصاد الكلي في مصر. سأبدأ بتعريف بعض المفاهيم الأساسية مثل أذون الخزانة والموازنة العامة للدولة والناتج المحلي الإجمالي والدين العام ودور البنك المركزي،

ثم أستعرض تجارب عالمية ازدادت سوءاً بالتوسع في إصدار أذون الخزانة ونماذج ناجحة لتجنب هذا المسار. وأخيراً سأقدم مقارنة لنسب إصدار أذون الخزانة في مصر خلال العقد الأخير وتحليل الوضع الحالي.

المفاهيم الأساسية:

1. أذون الخزانة:

أذون الخزانة هي أداة دين قصيرة الأجل تصدرها الحكومات لجمع الأموال من المستثمرين بهدف تمويل العجز في الموازنة العامة أو سداد الديون القائمة. يتم تداولها بفترات استحقاق تتراوح عادة بين 3 أشهر وسنة.

2. الموازنة العامة للدولة:

الموازنة العامة تمثل الخطة المالية للدولة خلال فترة زمنية معينة، تشمل الإيرادات (مثل الضرائب والإيرادات الأخرى) والنفقات (مثل الرواتب والبرامج التنموية). في حالة وجود عجز، يتم اللجوء إلى أدوات تمويلية مثل أذون الخزانة لسد هذا العجز.

3. الناتج المحلي الإجمالي (GDP):

هو القيمة الإجمالية لجميع السلع والخدمات المنتجة داخل دولة خلال فترة زمنية معينة. يُستخدم الناتج المحلي كمقياس للنشاط الاقتصادي في الدولة، ويعد عاملاً مهماً في تقييم القدرة على سداد الدين.

4. الدين العام:

هو إجمالي المبالغ التي تقترضها الحكومة من الداخل أو الخارج لتمويل عجز الموازنة. يتم تقسيم الدين العام إلى دين محلي ودين خارجي.

5. البنك المركزي:

هو المؤسسة التي تدير السياسة النقدية في الدولة، بما في ذلك إصدار العملة والتحكم في معدلات الفائدة. كما يلعب البنك المركزي دوراً رئيسياً في إدارة الدين العام والتحكم في معدلات التضخم.

العلاقة بين هذه المفاهيم:

تتداخل هذه المفاهيم مع بعضها بشكل كبير. فعندما تتجاوز نفقات الدولة إيراداتها، ينشأ عجز في الموازنة، ويتم تمويله عادة من خلال إصدار أدوات دين مثل أذون الخزانة. يعتمد البنك المركزي على سياسات معينة للتحكم في أسعار الفائدة وتشجيع أو تقليل الطلب على أذون الخزانة.

إذا زاد الاعتماد على أذون الخزانة دون القدرة على سداد الدين، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة الدين العام بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، ما يؤدي إلى زيادة التكاليف والفوائد على الحكومة وتقليل مرونتها في التعامل مع الأزمات الاقتصادية.

تجارب عالمية سلبية مع حالة التوسع في أذون الخزانة

عند النظر إلى تجارب بعض الدول التي زادت من إصدار أذون الخزانة بشكل مفرط، نجد حالات ازدادت سوءاً حتى وصلت إلى مستويات اقتصادية خطيرة:

1. اليونان:

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت اليونان بالاعتماد المفرط على أدوات الدين، بما في ذلك أذون الخزانة، لتمويل عجز الموازنة. أدى ذلك إلى تراكم دين هائل تجاوز قدرة الاقتصاد على تحمله. في عام 2010، اضطرت اليونان إلى طلب حزمة إنقاذ من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، لكن الأزمة الاقتصادية أثرت بشكل عميق على البلاد واستمرت آثارها لسنوات.

2. الأرجنتين:

شهدت الأرجنتين تاريخاً طويلاً من الأزمات الاقتصادية بسبب الاعتماد على الدين، بما في ذلك أذون الخزانة. ونجد أنه في أواخر التسعينيات من القرن الماضي وأوائل الألفية الجديدة، ازداد الدين العام بشكل كبير، ما أدى في النهاية إلى تخلف الحكومة عن سداد ديونها في عام 2001. كما أدّت هذه الأزمة إلى انهيار اقتصادي حاد.

تجارب ناجحة لتجنب الإفراط في أذون الخزانة

1. ألمانيا:

على الرغم من أنها كانت من أكبر اقتصادات العالم في حجم الدين العام في فترة التسعينيات، نجحت ألمانيا في الحد من اعتمادها على أدوات الدين قصيرة الأجل مثل أذون الخزانة. نفذت ألمانيا إصلاحات هيكلية في الموازنة العامة، مع تعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي، مما سمح بتقليل نسب الدين تدريجياً.

2. النرويج:

تتبع النرويج سياسة اقتصادية تعتمد على الاستخدام المحدود لأدوات الدين، مع تحقيق فائض في الموازنة من خلال استثمار عائدات النفط في صندوق الثروة السيادي. هذه السياسة مكنتها من تجنب التوسع المفرط في إصدار أذون الخزانة.

نظرة على الوضع في مصر (2014-2024):

تُظهر البيانات أن مصر اعتمدت بشكل متزايد على إصدار أذون الخزانة لتمويل العجز في الموازنة العامة، خاصة بعد ثورة يناير في 2011م وما تلاها من اضطرابات اقتصادية زادت وتيرتها منذ العام 2013م وما زالت مستمرة. ويمكننا أن نلاحظ عبر متابعة التقارير الرسمية أنه منذ عام 2014، ارتفع إجمالي الدين العام المحلي من 1.8 تريليون جنيه مصري إلى نحو 7 تريليونات جنيه في 2024.

وهذا يدفعنا إلى رصد عملية إصدار أذون الخزانة في مصر (2024-2014) لنجد الآتي:

– في عام 2014 بلغت قيمة أذون الخزانة حوالي 600 مليار جنيه.

– بحلول عام 2020 وصلت القيمة إلى 1.5 تريليون جنيه.

– في عام 2024 تجاوزت قيمة أذون الخزانة 2.5 تريليون جنيه.

أثر الاستمرار في التوسع:

إن الاستمرار في إصدار أذون الخزانة بمعدلات مرتفعة يحمل مخاطر كبيرة على الاقتصاد الكلي في مصر، ومن ذلك:

  • 1. زيادة أعباء خدمة الدين: تتزايد التكاليف والفوائد المستحقة على أذون الخزانة، مما يزيد من الضغط على الموازنة العامة ويقلل من الموارد المتاحة للاستثمار في التعليم والصحة والبنية التحتية.
  • 2. زيادة نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي: استمرار زيادة أذون الخزانة دون نمو قوي في الناتج المحلي الإجمالي يزيد من نسبة الدين إلى الناتج، مما يقلل من تصنيف مصر الائتماني ويؤدي إلى رفع تكلفة الاقتراض مستقبلاً.
  • 3. تأثيرات تضخمية: قد يؤدي التوسع في الاقتراض الداخلي إلى زيادة المعروض النقدي، مما يسهم في ارتفاع معدلات التضخم.

وفي الختام أود التأكيد أن التوسع في إصدار أذون الخزانة يمثل سلاحاً ذا حدين. فعلى الرغم من أنه يُعدّ أداة سريعة للحصول على السيولة، فالإفراط في استخدامه يؤدي إلى مشكلات هيكلية في الاقتصاد. من الضروري أن تتبنى الحكومة المصرية سياسات اقتصادية متوازنة تهدف إلى تقليل العجز المالي عبر تعزيز الإيرادات العامة وزيادة الإنتاجية وتحسين كفاءة الإنفاق الحكومي، وتصل إلى إعادة هيكلة الاقتصاد المصري على أسس علمية منهجية صحيحة على المستويين النظري والعملي.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى