ثقافة وفنون

مستنقع الفساد في قصر ثقافة الصالحية الجديدة .. من وراء السرقات والتلاعب

في الوقت الذي يُفترض أن تكون فيه قصور الثقافة معاقل للإبداع والمعرفة، وملتقى للأنشطة الثقافية والفنية التي ترفع من شأن المجتمعات المحلية، يبرز قصر ثقافة الصالحية الجديدة كحالة فريدة من نوعها، ليس في رعاية الثقافة، بل في إهمال وتواطؤ خطير أدى إلى خسائر مادية وفنية جسيمة.

خلف الأبواب المغلقة، يكمن مستنقع من الفساد وسوء الإدارة لم يُكشف النقاب عنه إلا بعد حادثتين سرقة غامضتين حدثتا في عام 2018، لم يتم تحرير محضر شرطي واحد بشأنهما حتى الآن.

حادثة السرقة الأولى .. تدمير وتحطيم بلا عقاب

في عام 2018، عند حلول الصباح في أحد أيام العمل العادية، صُدم موظفو قصر ثقافة الصالحية الجديدة عندما وصلوا إلى مقرهم ليجدوا الباب الأمامي للقصر محطماً بالكامل.

والباب المصنوع من الألوميتال تم تحطيم زجاجه الأمامي، ما أسفر عن سرقة معدات وأدوات مكتبية، أبرزها شاشة الكمبيوتر الخاصة بالمكتبة العامة.

لكن ما جعل الحادثة أكثر إثارة للدهشة، هو تكسير عدد من المراوح، وكسر باب قاعة المسرح، والوصول إلى غرفة التحكم التي تحتوي على معدات حيوية لنظام الصوت والإضاءة.

وغرفة التحكم الخاصة بالمسرح لم تكن مجرد غرفة، بل هي القلب النابض لأي عرض مسرحي أو نشاط فني. سرقة وتخريب الكابلات الخاصة بالصوت والكهرباء كانت خسارة لا تقدر بثمن، إذ أن تكلفة هذه الكابلات تصل إلى مئات الآلاف من الجنيهات.

ورغم فداحة الخسائر، لم تتم معالجة أو إصلاح أي من الأضرار حتى الآن. لماذا؟ ومن المسؤول عن هذا الإهمال الفاضح؟ ولماذا لم تتحرك الجهات المختصة لإصلاح هذه الأضرار الجسيمة؟ الأسئلة تبقى بلا إجابة، وسط ضباب كثيف من الصمت والتواطؤ.

تسويات مشبوهة .. بين أقسام الأمن والمخازن والقصر

الأمر الأكثر غرابة هو أن حادثتي السرقة لم يتم توثيقهما بمحضر شرطة واحد. وبدلاً من ذلك، تم تسوية الأمور خلف الكواليس بين الأطراف الثلاثة المسؤولة “ع. ع.”، قسم الأمن بفرع ثقافة الشرقية؛ و”ا. ز.”، قسم المخازن؛ و”س. س.”، قصر ثقافة الصالحية الجديدة.

وبدلاً من تقديم تقارير رسمية عن السرقات أو فتح تحقيق شفاف، تم الاتفاق بين الأطراف على شراء أصناف بديلة بمبالغ رمزية لتعويض الخسائر، حتى لو كانت تلك الأصناف معطلة أو قديمة.

السر الأكبر يكمن في الأصناف الغالية الثمن، حيث تم “تكهينها” وتسجيلها كمعدات خارج الخدمة، ما سمح بالتخلص منها بطرق غير قانونية.

والأغرب من ذلك هو أنه تم تحميل العاملين في القصر تكاليف بعض هذه الأصناف، في صورة مبالغ جمعوها فيما بينهم، ما يشير إلى تواطؤ ممنهج بين الإدارة والأطراف الخارجية.

الفساد المنهجي .. مناصب للبيع وصراعات داخلية

لم يكن الأمر مجرد حادثتي سرقة عابرتين، بل يكشف عن شبكة واسعة من الفساد تمتد عبر أقسام عدة في القصر.

ويُشاع بأن مديرة قصر ثقافة الصالحية الجديدة، سعاد سمير خالد، تسهل الأمور لمسؤول المخازن السيد زنون، الذي استولى على أصناف لا تُقدر قيمتها بسهولة، مثل طلمبات ومواتير الحماية المدنية.

ومن جانب آخر، تمت سرقة وتدمير أعمدة الإنارة في الحديقة الخاصة بالقصر، والتي كانت تُعد أحد أبرز معالمه.

وهذه الأعمدة المصممة على شكل زهرة اللوتس، والتي كانت تنير حديقة القصر بمساحتها الكبيرة التي تبلغ 8000 متر مربع، تم بيعها أو تدميرها بالكامل،

وتم استبدال الكابلات النحاسية المتصلة بشبكة الكهرباء الخاصة بالقصر بأسلاك ألمنيوم رخيصة. هل كان الهدف فقط هو السرقة أم أن هناك غايات أكبر وراء هذا التدمير المنهجي؟

مسرح القصر .. سوق للإيجارات غير الشرعية

لم يتوقف الأمر عند المعدات والأدوات، بل تحول مسرح القصر نفسه إلى مصدر دخل غير مشروع.

ووفقًا لمصادر داخلية، تقوم مديرة القصر بتأجير المسرح في أيام العطلات الرسمية “الجمعة والسبت” لإقامة حفلات خاصة لأصدقاء ومعارف،

بالإضافة إلى تأجيره لشركات الأدوية وأصحاب المصانع دون الرجوع للجهات المختصة. هذه الأنشطة تُصوّر على أنها فعاليات ثقافية تنظمها الإدارة، ولكنها في الواقع استغلال غير قانوني لمرافق القصر.

إهدار المال العام: صيانة على الورق فقط

تتراكم الأدلة على إهدار المال العام في قصر ثقافة الصالحية الجديدة. منذ عامين، تم صرف مبالغ مالية ضخمة على صيانة الدهانات وأعمال السباكة، دون أن يتم إجراء أي أعمال حقيقية.

وآخر هذه الوقائع كانت في مارس 2024، حيث تم صرف 14 ألف جنيه لسلفة دهان لواجهة الموقع. إلا أن العاملين تفاجأوا بأن المقاول المسؤول عن صيانة السقف لم يبدأ عمله حتى الآن، ما يفتح الباب للتساؤلات حول مصير تلك الأموال.

الأصناف المفقودة .. قصر ثقافة منيا القمح في دائرة الاتهام

في إحدى مفارقات هذا الملف المليء بالتجاوزات، تبين وجود أصناف خاصة بقصر ثقافة منيا القمح في مخازن قصر الصالحية الجديدة دون أي سند قانوني.

كيف وصلت هذه الأصناف؟ ومن المسؤول عن تحريكها دون إذن صرف أو موافقات رسمية؟

ووفقًا للمصادر، تمت تغطية هذه التجاوزات بإنفاق مبالغ على استئجار مخزن خارجي لتخزين هذه الأصناف، ما يعزز فرضية التلاعب بالأموال والممتلكات العامة.

الورش الفنية المغلقة .. موت النشاط الثقافي

رغم أن قصر ثقافة الصالحية الجديدة يُعد المتنفس الوحيد لمدينة صناعية مثل الصالحية، إلا أن معظم قاعات الورش الفنية مغلقة بحجة “عدم وجود موظفين.”

والغريب في الأمر أن هناك 12 موظفًا بالقصر، لكن يبدو أن النشاط الثقافي بات أمرًا ثانويًا أمام فساد الإدارة والصراعات الداخلية.

دعم مجهول المصير .. أسئلة عن الأموال القادمة من جهاز المدينة

إحدى النقاط المثيرة للشكوك هي الدعم المادي واللوجستي الذي يقدمه جهاز مدينة الصالحية الجديدة لقصر الثقافة.

ولم يتمكن أي من العاملين من تحديد كيفية إنفاق هذه الأموال أو تقديم مستندات توضح أوجه الصرف.

وهذا الدعم المالي، الذي من المفترض أن يساهم في تحسين القصر وتطوير أنشطته، يظل مصيره مجهولاً، وهو ما يفتح الباب للتساؤل حول الفساد المالي المستشري في أروقة القصر.

هل من محاسبة ؟

بين السرقات، التواطؤ، التلاعب بالأموال، وإهمال الدور الثقافي الحقيقي، يبرز قصر ثقافة الصالحية الجديدة كنموذج صارخ للفساد وسوء الإدارة.

وفي ظل غياب الرقابة وعدم اتخاذ أي إجراءات قانونية واضحة، يبقى السؤال الذي يطرحه الجميع من يحاسب هؤلاء؟ وهل ستتحرك الجهات المسؤولة لفتح تحقيق شفاف في هذه الفضائح؟

بينما تظل بعض الأصوات الشجاعة داخل القصر تحاول كشف الحقيقة، يبدو أن الخوف من الانتقام والتهديدات يحول دون اتخاذ خطوات جدية للمحاسبة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى