في مقدمة المواضيع الاستراتيجية التي تعلّق عليها «إسرائيل» أهمية وجودية بالغة، مسألة التعداد اليهودي في فلسطين، وتكثيف الهجرة اليهودية إليها، بغية تقوية وتعزيز الكيان بالإمكانات البشرية، والاقتصادية والعسكرية، ليتجاوز بشكل كبير في ما بعد الديموغرافيا الفلسطينية داخل الكيان المحتلّ.
لقد ظلّ هدف «إسرائيل» في هذا الشأن محصوراً، لكون زيادة التعداد اليهودي في فلسطين التاريخية، والعالم بقي متواضعاً ومحدوداً نتيجة أسباب عديدة أبرزها: تحديد النسل، والزيجات المختلطة بين اليهود وغيرهم، ولجوء العديد منهم الى التنصّر والاندماج كلياً في المجتمعات الجديدة، ورفع سن الزواج، وأيضاً الخلل بين معدل الولادات والوفيات الذي استمرّ الى ما بعد الحرب العالمية الثانية بقليل، لتعود ظاهرة الانكماش السكاني اليهودي بعد أواخر السبعينيات من القرن الماضي، مما ساهم بشكل كبير في تناقص أعداد اليهود في العالم.
الإحصاءات الرسمية «الاسرائيلية» تشير الى أنّ تعداد اليهود في العالم كله بما فيه «إسرائيل» بلغ 14 مليوناً عام 1970، وفي عام 1982 بلغ 13.988.600
مليوناً، وعام 1992 بلغ 13.963.800 مليوناً و14 مليون يهودي عام 2000.
وفقاً لتقرير الوكالة اليهودية، وصل عدد اليهود في العالم عام 2022 إلى 15.300.000 مليون نسمة، منهم 7 ملايين ومئة ألف يهودي داخل فلسطين. وهذا يعني انّ التعداد اليهودي في العالم زاد على مدى 52 سنة مليوناً ومئة ألف يهودي، أيّ بمعدل عشرين ألف يهودي في العام الواحد.
إنّ التحدي الأكبر للديموغرافيا اليهودية يأتي من جانب الديموغرافيا الفلسطينية بشكل كبير. إذ أنه رغم موجات الهجرة اليهودية السنوية التي تتدفق الى كيان الاحتلال منذ عام 1948 وقبله، نجد أنّ معدل النمو السكاني للفلسطينيين يتجاوز %3، حيث يبلغ عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخيّة بما فيها غزة والضفة الغربية وفقاً لبيان الجهاز المركزي الفلسطيني 7 ملايين و300 ألف شخص، أيّ ما يزيد عن عدد اليهود في فلسطين التاريخية، و7 ملايين و300 ألف في الدياسبورا. في حين يحتلّ اليهود %85 من المساحة الكلية لفلسطين.
أمام التعداد اليهودي الهزيل في العالم، وتراجع النمو السكاني السنوي لليهود، تلجأ «إسرائيل» ومعها الحاخامون الى إيجاد صيغة تخفف من القيود والشروط الدينية التي تتيح لغير اليهود الذين يستحوذون على بعض الشروط اليهودية، لاعتناق الديانة اليهودية، واعتبارهم في ما بعد، يهوداً خالصين، بعد «تطهيرهم» بطقوس معيّنة، يجتهد فيها الحاخامون لإضفاء الصفة اليهودية عليهم، ليكونوا في ما بعد في خدمة الاستيطان اليهودي. هذا ما جرى مع الفلاشا في اثيوبيا، ومع جماعة قبيلة اللامبا Lembaفي زمبابوي، وجماعة المانيبور القاطنين بين شمال الهند وميانمار.
على الرغم مما يشوب يهودية هؤلاء من علامات استفهام، وتحفظ على عرقهم «النقي»، فإنّ هذا لم يمنع «إسرائيل» من العمل على تهجيرهم إليها تحت ستار اليهودية السياسية، وأياً كانت الالتباسات، وشكوك الحاخامات بمعتقداتهم وبيهوديتهم، فهم في نظر الصهيونية السياسية أصحاب هوية يهودية، بعد أن زعموا أنهم يعودون في أصولهم الى سبط منشه، مما يحتم عودتهم الى «أرض الميعاد»، لتعزيز الاستيطان فيها. هذا ما كشفته يوماً مسؤولة لجنة الهجرة والاستيعاب في الكنيست الإسرائيلي كوليت افيتال، بقولها: «إنّ الغاية من جلب يهود مانيبور، ليس من أجل إنقاذهم، لكن من أجل توطينهم وإسكانهم في التجمعات الاستيطانية الواقعة وراء الخط الأخضر».
إنّ مواجهة التحدي الديموغرافي مسألة حيوية، واستراتيجية، وأمنية، وجودية بالنسبة لكيان الاحتلال. «إسرائيل» ستأخذ بها أكثر فأكثر، وإنْ جاء «تهويد» المجموعات الخارجية، مخالفاً لمفهوم الهوية اليهودية، ومعايير الحاخامين المتشدّدين الأرثوذكس لليهودية وأصولها، وتغاضي هؤلاء عن الشروط الصارمة التي يجب أن تتوفر في اليهودي، وإنْ أدّى التغاضي الى تناقض بين اليهودي «الأصيل» واليهودي المستجدّ أو «المفبرك» على يد الصهيونية السياسية، أو الى المزيد من الصراع بين يهود شرقيين ويهود غربيين.
إنّ إدخال مفاهيم دينية جديدة لاكتساب اليهودية، تراه «إسرائيل» مخرجاً لمأزق ديموغرافي خطير، تعاني منه في الوقت الحاضر، والتي ستجد نفسها عاماً بعد عام بحاجة ماسة الى أيدٍ عاملة، وإلى «مهاجرين» جدد، يهوّدهم الحاخامون، كي تعزز من خلالهم قوّتها العسكرية، وأمن المستوطنين فيها.
قلق وهاجس «إسرائيل» كبير من المدّ البشري الفلسطيني، الذي يزداد بسرعة مع الأيام، وتكبر معه مقوّماته الاقتصادية والعلمية، والثقافية، والعسكرية، مما سيضع استمرارية الدولة العبرية وكيانها العنصري على طريق المجهول.
لقد كان دافيد بن غوريون متنبّهاً مسبقاً الى الحالة الديموغرافية العربية والإسرائيلية. لذلك حذر بقوة عندما قال: «إنّ كلّ أمّ يهودية لا تنجب على الأقلّ أربعة أطفال في صحة جيدة، تتخلّى عن واجبها تجاه الأمة» (اليهودية).
لم تعد «إسرائيل» تنظر الى الرقم الفلسطيني بمجرد عدد، وإنما تنظر اليه كعامل قوة على مختلف الصعد، وبالذات على الصعيد العسكريّ المقاوم لها ولاحتلالها. لذلك ترى في حربها اليوم على غزة والضفة الغربية، على أنها حرب وجود، تريد منها اختزال الفلسطينيين، واقتلاعهم من أرضهم بأيّ شكل كان، إذ أنه في مفهوم القادة الصهاينة من هرتزل مروراً بوايزمن وبن غوريون، واسحق بن زفي، وزئيف جابوتنسكي، وصولاً الى مجرم الحرب نتنياهو، لا بدّ من ترحيل الفلسطينيين، على اعتبار انّ فلسطين، كما زعم في يومياته عام 1940 يوسف وايتز مدير دائرة الاستيطان في الصندوق القومي اليهودي، ورئيس لجنة الترحيل الرسمية، «يجب أن يكون واضحاً بيننا، ان لا مجال لكلا الشعبين في هذا البلد، ولا «تطور» سيقرّبنا من هدف أن نكون شعباً مستقلاً في هذا البلد الصغير. وبعد ترحيل العرب، سيكون البلد مفتوحاً لنا على مصراعيه… شراء الأراضي لن يأتي بدولة… السبيل الوحيد هو ترحيل العرب من هنا الى دول مجاورة».
مجرمو الحرب في تل أبيب ينفذون اليوم الإبادة الجماعية تمهيداً للترحيل، لكن مَن سيُرحِّل مَن؟!
إنها الديموغرافيا الفلسطينية التي ستحسم الأمر في نهاية المطاف، ولن تكون في صالح الطارئين القادمين من خلف القارات والبحار. لذلك تخوض «إسرائيل» حربها العبثية اليوم بكلّ إجرامها ومجازرها، والتي تعتبرها حرباً وجودية ومصيرية للكيان المؤقت، سيما أنها تشهد حالياً هجرة عكسية يهودية من فلسطين الى الخارج.
نتنياهو سيستمر بالذهاب بعيداً في إجرامه حتى النهاية، وعلى المقاومات في المنطقة أن تتأهّب للحرب المصيرية الحاسمة! إنها فعلاً معركة مصير ووجود للفلسطينيين، وشعوب المشرق، ولا مجال أمامهم سوى المقاومة، والاستمرار بها، مهما كانت التضحيات، إذا ما أرادوا الحفاظ على أرضهم ووجودهم وحياتهم…
وسيحافظون…