في رحلتي العميقة إلى الماضي السياسي لمصر، أجد نفسي أتأمل في تساؤلات مثيرة حول حقبة جمال عبدالناصر، الزعيم الذي قاد الأمة بيد من حديد ورؤية ثورية لم تحقق ما وعدت به.
وقبل أن ندرك لماذا قبِل عبدالناصر بانفصال السودان في حين تمسك النظام الملكي بالوحدة، يجب علينا أن نغوص في أعماق التصورات والخلفيات السياسية التي شكلت تلك الحقبة.
عبدالناصر، الزعيم القومي والثوري، كان يعتبر الوحدة العربية جزءًا أساسيًا من رؤيته لمستقبل الأمة العربية. ومع ذلك، عندما جاء الأمر لانفصال السودان، كان قراره مخالفًا لآمال الأمة العربية المعلقة.
لماذا قد يختار عبدالناصر، الذي رفع شعار الوحدة، أن يترك السودان يبتعد عن مصر؟ يمكن أن يُعزى ذلك إلى عدة أسباب، منها الضغط الداخلي، الأزمات الاقتصادية، والمشكلات الإدارية التي كانت تعاني منها مصر في ذلك الوقت.
عبدالناصر كان محاطًا بعدد هائل من التحديات الداخلية والخارجية، وقد يكون قراره كان نتيجة ضغوطات سياسية معقدة لم يكن أمامه سوى القبول بها، رغم أن ذلك لم يكن يتماشى مع مبادئه الثورية.
النظام الملكي الذي كان يتهمه الناصريين بأنه نظام فاسد فيُنسب له الفضل في الحفاظ على الوحدة مع السودان، كان بالفعل يتمسك بالقضايا الوطنية بشكل متعصب.
العبارة الشهيرة الذي قالها مصطفي باشا النحاس زعيم الأمة ورئيس وزراء مصر الأسبق “تقطع يدي ولا تقطع السودان” تجسد عمق تمسك النظام الملكي بالوحدة، وتكشف عن حجم التحديات والأزمات التي كانت تمر بها مصر في تلك الفترة.
إذاً، لماذا اختلفت الاستجابة بين النظامين؟ قد يكون السبب في ذلك أن النظام الملكي كان ينظر إلى الوحدة كرمز للشرعية الوطنية والقوة، بينما عبدالناصر كان يرى أن الحفاظ على الوحدة قد يأتي على حساب استقرار البلاد.
أما بالنسبة لمقولة كوبلاند في كتابه حول المساعدات الأمريكية لمصر خلال الفترة من 1958 إلى 1966، فهي تثير تساؤلات جدية حول الصراع بين الصورة التي أراد عبدالناصر أن يظهر بها للعالم ولجماهيره، والواقع الذي كان يعايشه فعلاً.
عبدالناصر كان يسعى لتقديم نفسه كمحارب للهيمنة الغربية ومؤيد للثوار، ولكن في الواقع، كان يحتاج إلى الدعم الاقتصادي والسياسي من الولايات المتحدة، وهو ما يتناقض مع الصورة الثورية التي رسمها لنفسه.
ما يعزز هذه الرؤية هو الفشل في تقديم إنجازات ملموسة على الأرض، وهو ما يظهر جليًا في الهزيمة النكراء التي تعرضت لها مصر في 1967.
بينما كان عبدالناصر يحتفل بالنصر على طواحين الهواء، كان الشعب المصري يتعرض للمرارة والفشل.
إن “فرعون” الذي سعى لتقديسه، أصبح في نهاية المطاف ضحية لأكاذيب خادعة وأوهام صممت لتقنع الجماهير بأنه البطل المخلص. ومع ذلك، لم يكن هنالك هرم يشيد لذكراه، بل كان هناك سور من الأكاذيب يحيط به.
أعتقد أن الحقيقة المؤلمة التي تكشفها هذه الفترة هي أن عبدالناصر، على الرغم من كونه رمزًا لثورة التحرر الوطني، كان في النهاية ضحية لسياسات غير مدروسة وأحلام لم تُحقق.
الانفصال، المساعدات المشروطة، والهزيمة العسكرية، كل هذه كانت علامات على فشل النظام في تحقيق الأهداف الكبرى التي وعد بها.
جمال عبدالناصر قد يكون رمزًا لحقبة مضطربة، لكنه في النهاية لم يكن إلا شخصًا كان يدفع ثمن تطلعاته العظيمة.