مقالات ورأى

أنور الهواري يكتب : مجمع تشخيص مصلحة النظام

في إيران- مثلما في مصر- شعب متحضر السلوك، متنور العقل، متحضر التفكير، مثقف الروح، متيقظ الضمير، ممتاز الشعور، كلا الشعبين كان سباقاً للحضارة، كان المصريون أسبق كثيراً،

منذ الألف الرابعة قبل الميلاد، حتى كانت إمبراطوريتهم 1570 قبل الميلاد- 1087 قبل الميلاد، هي فاتحة الإمبراطوريات في التاريخ. جاء الإيرانيون إلى التاريخ متأخرين عن المصريين،

لكن كانوا أبعد انتشاراً وأوسع حضوراً، حتى طمعوا في روما ذاتها، وكادوا يطرقون أسوار القسطنطينية، وهزموا الرومان ووقع أحد القياصرة أسيراً في قبضتهم. وفي العصر الحديث كان ذكاء الشعبين كافياً لإدراك أن تفوق الحضارة الغربية، صار قدراً مقدوراً، مثلما أن اضمحلال الحضارة الإسلامية قد وصل تمامه وكماله.

واجه الشعبان تناقضات التاريخ: الاعتراف باضمحلال الحضارة الإسلامية مع العشم في إحيائها من جديد، وهذا تناقض عميق ليس له حل حتى الآن، ما دامت الحضارة الغربية بقيت تواصل التفوق، وتستحوذ على مؤهلات القوة والسيطرة،

كذلك واجه الشعبان تناقض الانفتاح على علوم وفنون وثقافة ونظم الغرب في الوقت الذي يحافظ فيه الغرب على روحه العدوانية ونفسيته المسكونة بالخوف من أي نهضة جديدة للشرق.

ناضل الشعبان في القرون الثلاثة الأخيرة على ثلاثة محاور: مواجهة طغيان الغرب، مواجهة طغيان الحكام، مواجهة التفاوت الاجتماعي الفادح بين أقلية ذات امتيازات،

تضمن لها حياة فاخرة فخيمة وأغلبية مسحوقة بين الفقر والعسر، يواجه الشعبان تحالفاً من طغيان الغرب تحت مسميات شتى، ثم طغيان الحكام تحت شعارات شتى،

ثم طغيان الطبقات المتميزة تحت مبررات شتى، والأنواع الثلاثة من الطغيان عبارة عن شبكة مصالح راسخة، تحمي نفسها عبر تعميق الديكتاتورية والحكم المطلق، ولو تحت مسميات ديمقراطية.

انتهى كفاح الشعبين إلى جمهورية، يصدق عليها وصف مونتسكيو 1689- 1755 في ص 53 من الجزء الأول من كتابه “روح القوانين” ترجمة الدكتور إياس حسن، عندما يقول إن الجمهورية أصبحت غنيمة،

قوتها تعمل لصالح أقلية، ثم استباحة الجميع بعد ذلك. هذا الوصف المثالي لنوع الجمهورية في كل من إيران ومصر، يعود- كما في تحليل مونتسكيو- أن الشعوب وجهت غضبها للطغاة؛ فسعت لاستئصالهم وقد نجحت في ذلك، لكنها لم توجه غضبها صوب الطغيان ذاته أو صوب الظروف والعوامل الموضوعية التي تنتج الطغاة سابقاً ثم لاحقاً، فكلما سقط كسرى قام كسرى،

وكلما سقط طاغية حل مكانه طاغية، سقط طغيان الملوك والخديوية من سلالة محمد علي باشا؛ فحل محله طغيان الرؤساء الجمهوريين، وسقط طغيان الملوك من الشاهنشاهية البهلوية؛ فحل محلها طغيان القائد الأعلى والمرشد الأعلى، وولي الأمر المطلق الولي الفقيه النائب عن الإمام الغائب عن حضرة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم.

لكن رغم أوجه الشبه بين الجمهوريتين الأكبر في الشرق الأوسط، فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تظل هي الأبعد بعد المشارق والمغارب، عن أن تكون جمهورية، هي ديكتاتورية دينية في ثياب ثورية، رئيس الجمهورية ليس رئيس جمهورية على وجه الحقيقة، بل هو رئيس جمهورية على وجه المجاز والتسمية، 

لكن من الناحية الفعلية هو رئيس السلطة التنفيذية هو فقط كبير الوزراء، رئيس سلطة تنفيذية مثل غيره من رئيسي السلطتين التشريعية والقضائية، رأسه ليس رأس رئيس جمهورية، رأسه- في ميزان القوة- يتساوى مع رأس القضاء ورأس البرلمان. إطلاق تسمية الجمهورية على الديكتاتورية الدينية في إيران هو مجرد استعارة شكلية من التراث السياسي الغربي،

سبق أن تمت استعارته في إطلاق اسم الجمهورية على الديكتاتوريات العسكرية في الشرق الأوسط، وعدد وافر من ديكتاتوريات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

تكون الجمهورية ديمقراطية حين تتوفر عدة شروط: السيادة للشعب، الحكم للمؤسسات المنتخبة، دون تزوير ولا تزييف ولا قسر ولا إكراه، حق الشعب في مراقبة الحكام الذين انتخبهم، حق الشعب في عزل الحكام، إذا خرجوا عن مقتضى العقد الاجتماعي الذي تم اختيارهم وفقاً له،

ثم الشرط الأكثر أهمية هو ما يسميه مونتسكيو “الفضيلة السياسية” وهذه الفضيلة السياسية هي “حب الوطن” وحب الوطن هو “المساواة”. إذن المساواة ثم المساواة ثم المساواة هي الشرط الجوهري الفارق بين جمهورية ديمقراطية حقيقية وجمهورية طغيانية ديكتاتورية. الثورات في إيران ومصر قامت لأجل المساواة، وبررت وجودها بالدعوة للمساواة،

لكنها في كلا البلدين أعادت تأسيس تفاوتات وفوارق ضخمة بين أقليات ذات حظوة وأغلبيات مسحوقة، فباتت كلتاهما جمهورية بالاسم فقط، ثم شاهنشاهية في إيران وخديوية أو سلطانية أو ملوكية في مصر. لهذا في البلدين انتخابات؛ لكن بدون ديمقراطية، وفيهما شعب لكن بدون سيادة، وفيهما صحافة لكن بدون حرية،

وفيهما قضاء لكن دون عدالة، وفيهما جماهير لكن دون رأي عام، وفيهما حركة لكن دون تحرك إلى الأمام، وفيهما تغيير لكن دون تغير إلى الأفضل، متوسط دخل الفرد فيهما ضعيف، يزيد قليلاً في حالة إيران، ويقل قليلاً في حالة مصر عن متوسط الدخل الفردي في بلد فقير الموارد الطبيعية مثل تونس، وإجمالي الدخل القومي لا يعبر عن حيوية الشعبين ومواردهما المادية والأدبية.

ديكتاتورية الجمهورية في مصر تأسست على فكرة الألوهية السياسية لمقام رئيس الجمهورية، من حيث أن الرئيس فكرة فوق بشرية لا يجوز لبشر التنافس معها على مقعد الرئاسة؛ فكان نظام الاستفتاء على شخص واحد، يفوز بأرقام فلكية، ثم لما من تلقاء نفسه ألغى الرئيس الأسبق مبارك نظام الاستفتاء، فإنه حافظ على فكرة،

أن الرئيس اختراع فوق طاقة البشر العاديين، فوضع تقليداً عملياً، ألا يتنافس مع الرئيس إلا من يحب الرئيس أو تختاره أجهزة الرئيس، أما غير ذلك فلا يجوز لمواطن مصري ابن تسعة أشهر، أن يزاحم الرئيس- بصورة فعلية جادة- على مقام الرئاسة ومقعدها وقصورها وهيلمانها وصولجانها وسلطاتها غير المقيدة وصلاحياتها التي بلا حدود،

حتى إذا استوفى الرئيس الإجراءات الشكلية المستعارة من النظم الجمهورية، ودخل القصر وجلس على الكرسي، زاول سلطات مطلقة على كل دقيق وجليل من أمور الدولة والشعب، لا يُرد له قول، ولا رقابة عليه من أي نوع لا بالدستور ولا من غير الدستور.

ديكتاتورية الجمهورية الإسلامية في إيران أعقد وأذكى بكثير، المرشد الأعلى والقائد الاعلى وإمام الأمة، وولي الأمر المطلق لا يشغل موقعه باستفتاء شكلي ولا بانتخابات مطبوخة في مطابخ الأجهزة القمعية،

لكن يتم اختياره من مجلس خبراء القيادة، وهذا المجلس هو من يملك عزله، ثم هذا المجلس توصياته ملزمة لكافة أجهزة الدولة، ولا يجوز للبرلمان (مجلس الشورى الإسلامي) تعديل الدستور إلا بعد موافقة مجلس خبراء القيادة. فإذا خلا مقعد المرشد الأعلى- لأي سبب- اجتمع مجلس خبراء القيادة، ووضع أمامه قائمة،

تضم كبار فقهاء المذهب الشيعي الاثني عشري، واختار منهم من تنطبق عليه المواصفات، فإذا لم يجدوا من تتوفر فيه المواصفات اختاروا واحداً منهم. وحسب نص المادة 105 من الدستور: “تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بيد الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر الشجاع القادر على الإدارة والتدبير”. وفي المادة 107: “توكل مهمة تعيين القائد إلى الخبراء المنتخبين من قبل الشعب، 

وهؤلاء الخبراء يدرسون ويتشاورون بشأن كل الفقهاء الجامعين للشروط، وإذا حددوا فقيهاً منهم، باعتباره الأعلم بالأحكام والموضوعات الفقهية أو المسائل السياسية والاجتماعية أو حيازته تأييد الرأي العام أو تمتعه بشكل بارز في إحدى الصفات المذكورة في المادة 109 انتخبوه للقيادة، وإلا فإنهم ينتخبون أحدهم ويعلنونه قائداً، ويتمتع القائد المنتخب بولاية الأمر،

ويتحمل كل المسئوليات الناشئة عن ذلك. ثم المادة 109 تحدد الشروط اللازم توافرها في القائد وصفاته وهي: أ- الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء في مختلف أبواب الفقه الإسلامي على المذهب الشيعي الاثني عشري. ب- العدالة والتقوى اللازمتان لقيادة الأمة الإسلامية. ج- الرؤية السياسية الصحيحة، والكفاءة الاجتماعية والإدارية، والتدبير والشجاعة والقدرة الكافية للقيادة. د- وعند تعدد من تتوفر فيهم الشروط المذكورة،

تكون الأفضلية لمن كان منهم حائزاً على رؤية فقهية وسياسية أقوى من غيره”. ثم تفصل المادة 110 وظائف القائد وصلاحياته، وهي نموذج دستوري لصناعة الطغاة.

ديكتاتورية الجمهورية الإسلامية في إيران، تبدأ من هنا، من حرمان الشعب من أمرين: من حق الترشح لمنصب الرئيس، ثم من حق اختيار من يترشح لمنصب الرئيس،

الترشح فقط للفقهاء، الانتخاب فقط لمجلس خبراء القيادة المكون من 86 عضواً. يمكن فهم هذه النقطة- بمثال تخيلي تقريبي- لو افترضنا أن الدستور المصري ينص،

على أن يكون المترشح لرئاسة الجمهورية من ضباط الجيش، ويقوم بانتخابه المجلس الأعلى للقوات المسلحة،  حتى لو كان هذا هو واقع الحال، فليس منصوصاً عليه في الدستور،

لكن الدستور الإيراني قتل فكرة الجمهورية في مهدها حين جعل الترشح للفقهاء، والانتخاب للخبراء وأخرج الجماهير من المعادلة تماماً، لقد جاءت الثورة الإيرانية- كنضال شعبي- على أشرف ما تكون الثورات، لكن جاءت الجمهورية الإسلامية- كنظام حكم- أسخم وأضل من الجمهوريات العربية التي تأسست عقب موجات الانقلابات العسكرية عند منتصف القرن العشرين.

ديكتاتورية الجمهورية الإسلامية لا تقف فقط عند منع الشعب من الترشح، ثم التصويت في اختيار الرئيس الفعلي للدولة وهو المرشد الأعلى، لكن تذهب لما هو أبعد من ذلك بكثير،

تذهب إلى تركيب وتسييد مؤسسات غير منتخبة من الشعب فوق المؤسسات المنتخبة من الشعب. حيث مؤسستان خطيرتان تأتيان في الأهمية مباشرة عقب أهمية المرشد الأعلى، وتفوقان في الأهمية كلاً من رئيس الجمهورية، وهو ليس أكثر من رئيس وزراء، كما تفوقان البرلمان ذاته أي مجلس الشورى الإسلامي،

هاتان القوتان هما مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي هو فوق البرلمان، ومجمع تشخيص مصلحة النظام الذي هو فوق كل المؤسسات، بما فيها رئاسة الجمهورية، وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.

المصدر مصر360

 –

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى