وَفي الجَهلِ قَبلَ المَوتِ مَوتٌ لِأَهلِهِ…
العنصرية هي ببساطة أكبر فضيحة للحداثة ومدعيها وادعاءاتهم بالتنوير والمساواة والإنسانية. والحقيقة أن مكمن هذا العار ليس أن ما قدمته الحداثة من حلول تجاه العنصرية غير فعالة،
بل لأن ادعاءات الحداثة الجوفاء قد تجاوزت الحد إلى جانب ما تقوم به بقصد أو بغير قصد من إخفاء لعنصريات أعمق بكثير في ثنايا تلك الادعاءات.
وقد زادت ادعاءات الحداثة في الآونة الأخيرة في عيون المنتسبين إليها لدرجة حديثهم أنها أيدولوجية مدركة وقادرة على التفكير في احتياجات الذات وتوفيرها، وكأن الحضارات السابقة وباقي الدول والمجتمعات خالية من تلك القدرة المميزة للحداثة في نظر أصحابها.
وحتى هذه الميزة التي يطلق عليها «الانعكاسية الذاتية» وظفها المعاصرون على مستوى الشعوب والأنظمة وسيلة لتمييز أنفسهم وإظهارهم متفوقين على الآخرين، سواء أدركوا ما في ذلك من العنصرية أم لا،
وعلينا نحن أن ندرك ما نقوم به وما يفعله هؤلاء إذا أردنا تقديم حلول حقيقية لما يعيشه العالم اليوم من اضطرابات في ظل ادعاءات الحداثة التي أماتها قبل موتها الجهل.
يعطي العلم الوضعي هذا الشعور بالتفوق للإنسان الغربي أو المستعمِر الذي يرى نفسه غربيًّا. وهكذا، فإن العالم الذي يطلق شعارات الإنسانية وادعاء المساواة وحقوق الإنسان،
يتساقط إلى الهاوية دون رجعة بتأثير فيروس العنصرية الظاهرة والمتخفية. ورغم ذلك المصير فإنك ربما إذا سألت من يعيش في هذا العالم تجده ليس على علم به،
بل إنه لا يدرك أنه غير مدرك. وهذا هو السبب في أن الغالبية العظمى من الناس الذين تراهم عنصريين يدعون أنهم ليسوا عنصريين؛ لأنهم غير مدركين لحالهم ولا يعرفون أنفسهم.
إنهم لا يعرفون الآخر كما لا يعرفون أنفسهم، ولا يعرفون الله الذي خلقهم من العدم، باختلاف ألوانهم وأعراقهم ولغاتهم. وإذا كانوا يفقهون فإنهم بالطبع لن يتفاخروا بشيء أو بميزة ليس لهم أي يد أو مساهمة في تكوينها، بل إنها هبة كاملة من الخالق سبحانه وتعالى.
والحقيقة أن أفضل كلمة يمكنها التعبير عن العنصرية هي «الجهل» فالعنصري جاهل ولذلك هو عنصري. فإذا كان مرجع تفاخره وتفوقه هو الدم فهو أجهل من أن يعرف أن هذا الدم ليس له خصائص تمييزية.
إنه أعمى بما فيه الكفاية ليرى أنه لا يختلف عن أي شخص أو أي شيء آخر، فيما يتعلق بأن الجميع لا يبذل أي جهد لاختيار جنسه أو مكان ولادته أو اكتساب خصائصه الجسدية أيًّا كانت.
بأي منطق يدعي شخص التفوق على الآخرين بخصائص ليس له يد فيها، بل إنها ممنوحة له بشكل كامل. نحن نعلم أن أول من فعل ذلك في التاريخ هو إبليس الذي ادّعى أنه أفضل من آدم الذي خلقه الله من تراب وخلق إبليس من النار. ومع اعترافه بأن الله هو الذي خلقه وخلق آدم فإنه لم يقبل الدور الذي كلفه الله به.
الله الذي كتب لآدم دورًا ولإبليس آخر، وليس بمقدرة أيٍّ منهما أن تكون لديه معرفة أفضل من الله الخالق الذي يعلم مناسبة كل منهما لما خلقه له وكلفه به. والحقيقة أن إبليس لم يكن لديه مشكلة مع المعرفة، فقد كان على قدر من العلم، لكن علمه لم يستطع إنقاذه من الوقوع في هذا الجهل.
ومع ما وصلت إليه البشرية اليوم ربما يكون هذا العصر هو أكبر تراكم وتداول واستخدام للمعلومات تم تسجيله على الإطلاق في تاريخ البشرية. والمعلومات المتوفرة الآن حول مسألة الأعراق تثبت أنه لا أساس علميًا لفكرة الاختلاف والتمييز العرقي، بل تم اختراعها لأهداف اجتماعية وسياسية لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
ورغم التزايد المتسارع في المعرفة من ناحية، واستمرار الناس في البحث عن أصنام يعبدونها من ناحية أخرى، يستمر الفشل في النجاة من هاوية الجهل وعواقبه الوخيمة على البشرية كلها.
واليوم فإن عدم تورع الاحتلال الإسرائيلي عن الإبادة الجماعية التي يرتكبها في حق الشعب الفلسطيني ينبع من عنصريته وفيروسه الذي عطَّل جميع القيم والعقلانية،
ودفع العالم الغربي إلى التخلي عن جميع معاييره وشعاراته في مواجهة هذه الإبادة الجماعية. وظهر عمليًّا أن العقل الغربي المغمور في حمامات التنوير ودعاواها عالق في مستنقع الجهل وكهوف العنصرية، وهو أمر قديم جديد.