في 19أغسطس الماضي رفع مجلس أمناء الحوار الوطني مخرجاته حول الحبس الاحتياطي للرئيس عبد الفتاح السيسي، وفي اليوم التالي قام الرئيس بتحويل تلك المخرجات لمجلس الوزراء، الذي حولها بدوره إلى مجلس النواب، الذي كانت تناقش لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية قانون الإجراءات الجنائية. والمعروف أن هذا القانون هو المحط الرئيس لقضية الحبس الاحتياطي التي أصبحت اليوم شوكة في حلق نظام 30يونيو 2013، بسبب ما تثيره من خلاف في التطبيق ناتج عن إهمال حرية المواطن والنيل من المبدأ الحقوقي العالمي والدستوري وهو أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته. إذ أنه في التطبيق، أصبح الموقوفين احتياطيا على ذمة القضايا المختلفة من جنح وجنايات يقبعون خلف أسوار السجون لسنوات طويلة، ربما تتجاوز مدة العقوبة التى ترتبط بها تلك الجنح وهذه الجنايات لو صحة الإتهامات. وما يزيد الطين بلة أن مدة الحبس الاحتياطي تلك ربما تتضاعف عندما يتم تدويرالموقوفين في قضايا أخرى، وهو تدوير عادة يتم بغرض أمني وسياسي، هدفه بالأساس التنكيل بالناس عن قصد وسوء نية، خاصة بشأن أولئك الموقوفين في قضايا ترتبط بحرية الرأي والتعبيرـ وهو أمر يتعارض بالكلية مع مبدأ التسامح والعدالة الانتقالية، ما يولد بقاء الغل والأحقاد في نفوس الناس، وكذلك ضم معارضين سلميين لصفوف المعارضة العنيفة، ما يعرض السلم والأمن القومي للخطر بسبب سياسات انتقامية يكون رد فعها بالمثل.
ما يحدث أيضا هو أن يقوم الموقوف حال تبرأته برفع دعوى تعويض عن الفترة الطويلة التي قضاها في الحبس، ثم يقضى له بتعويض هزيل. ليس هذا فحسب بل أنه كثيرا ما تقوم الجهات الإدارية ممثلة في وزارة الداخلية أو الجهات القضائية ممثلة في النيابة العامة، بإكمال مهمة التعذيب النفسي بمنع الناس المفرج عنهم من التصرف في أموالهم أو من السفر لسنوات عديدة، وبعض هؤلاء قضى نحبة وهو يقتات بالكاد من الأغيار كي يعيش رغم امتلاكه ما يكفيه من ثروة رهن الاحتجاز في البنوك، كل ذلك العوز يقتل لدى المواطن حب الوطن، والخشية عليه، والزود عنه، ما يفضي في النهاية لتعميق الأحقاد الاجتماعية.
هكذا بدا حل القضية لدى البعض كما لو كان نوع من الرغبة في تطبيق الدستور والقانون القائم وليس تغيير في مواد ستلحق بقطار عدم التنفيذ كسابقتها. بعبارة أخرى، يعد التطبيق السليم هو الأمل المطلوب من الجهات المعنية، وهو أمر يرتبط بالنزاهة وحسن النوايا، إذ من الصعب تصديق أن يبقى الموقوف لعامين وأكثر في الحبس الاحتياطي تحت دعوى عدم استكمال التحقيق، فأي تحقيق هذا الذي يبقى الموقوف لعامين وأكثر ولا يستكمل!!!
ولعل من غرابة الأشياء والتي ترد معلومات مؤكدة بشأنها اليوم هو أن تقرير اللجنة الفرعية الخاص بلجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب، قد خلا مما بعثه الرئيس عبد الفتاح السيسي كمخرجات للحوار الوطني حول الحبس الاحتياطي للحكومة ومن ثم للبرلمان. لذلك عندما أغتب حدط الكثيرين من تحويل الرئيس مخرجات الحوار إلى تلك الجهات، طالب المتابعين للشأن البرلماني بالدعوة للتريث، لأن البرلمان منذ بداية التجربة الحزبية الثالثة في 11/11/1976 ومن قبلها، وهو يأتمر من خارجه، خاصة في حالة النظام الانتخابي الشائه الحالي المسمى بالقائمة المطلقة والذي تشكل من خلاله نصف أعضاء البرلمان بطريقة أشبة بالتزكية أو التعيين، ما يجعل هناك خلل بين في التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ما يوصم الأخيرة بكونها مؤسسة تمريرية أو ما يسمى في الأدبيات البرلمانية Rubber Stamp .
لقد قام مجلس النواب خلال الفترة الأخيرة بعقد لجان استماع، حضرها متخصصين من القضاة السابقين والحقوقيين والأمنيين، لذلك فإن أخطر ما يمكن أن يقوم به البرلمان اليوم أن يعتبر ما أرسله الرئيس السيسي من مخرجات للحوار الوطني، بأنه مجرد لجنة مجانية للاستماع عقدها الحوار الوطني لمجلس النواب يوم 23يوليو 2024.
أن النظر إلى مواد التقرير الذي قدمته اللجنة الفرعية عن لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بشأن مشروع قانون الإجراءات الجنائية لا يكفي للغرض الخاص بما حوله الرئيس السيسي للحكومة والبرلمان، ما يجعل ويؤكد أن الدولة العميقة لا زالت قائمة ممثلة في البيروقراطية الأمنية التي تعيق كل تقدم في المجال الحقوقي المرتبط بفتح المجال العام الموصد منذ أكثر من عقد من الزمن.
فالنظر إلى مواد الفصل السابع المعنون بأسم “أمرالحبس” المواد 112-124، لا يجد أي جديد فيما تضمنته من تخفيض لمدد الحبس الاحتياطي، كما تخلو تلك المواد من أي أمور تمنع تدوير الموقوفين بين جنح وجنايات مختلفة. كما تجاهلت م144 وم148 من مشروع القانون على التوالي أي حديث عن وضع أجل محدد للمحكمة للحكم حول بقاء أو سريان العمل بقرار منع -المفرج عنه من الحبس الاحتياطي- من التصرف في الأموال أو حق السفر إلى الخارج، ما يجعل من الناحية العملية الأجل مفتوحا أمام المحكمة، ومن ثم بقاء سياسة إذلال المفرج عنهم. وفي شأن تدوير الموقوف بين قضايا عدة، لم يتطرق مشروع القانون بأي شكل إلى منع الإزدواج بين مدد الحبس الاحتياطي، ما يفضي عمليا إلى فتح آجال الحبس الاحتياطي والجمع بينها، ومن ثم بقاء المدد لا نهاية لها، على عكس ما جاء في مخرجات الحوار الوطني.
وفيما يرتبط بالقضاء على كافة الأمور التي تجعل النيابة العامة تتلكأ في إصدار قرارات الإفراج عن الموقوفين بحجة أن التحقيق لم يكتمل، لم يأت مشروع القانون أو أي قرار إداري أو إعلان صادر عن السلطة العامة بأي جديد، رغم أن مخرجات الحوار الوطني قد أشارت إلى أمرين مهمين الأول انتقالي يرتبط ببندين في المخرجات البند الأول “مناشدة النيابة والنائب العام باتخاذ ما يلزم قانونا نحو المحبوسين لمدة استطالت بالإحالة إلى المحاكم أو إخلاء سبيل هؤلاء، وهو ما ينطبق على المنع من السفر وتدابير ترقب الوصول والحجز على الأموال”. والبند الثاني”تشكيل لجنة أو أكثر من النيابة العامة لتحيل المتهمين للمحاكمة أو لتفرج عنهم فورا”. أما الأمر المهم الثاني، فهو أن مشروع القانون لم يتناول ما جاء بمخرجات الحوار من النص على “التوسع في إشهار دور المؤسسات الأهلية لتوسع إجراءات الدمج وعودة الموقوفين لحياتهم الطبيعية بعد الإفراج عنهم لعدم كفاية الأدلة أو لثبوت الاتهام”.
وفي شأن التعويضات تجاهلت م 523 النص على حجم التعويض المادي، والذي كان يتوجب ذكره، ويكون موجعا للسلطات العامة حتى تمتنع عن التنكيل بالناس وتحول الحبس الاحتياطي إلى عقوبة.
إن أكثر الأمور المهمة في تنفيذ ما حوله الرئيس السيسي من مخرجات الحوار إلى مجلس الوزراء ثم إلى مجلس النواب، هو أخذ النيابة العامة بالتدابير الاحترازية حتى تقوم باستكمال التحقيق مع الناس المعنيين، وتلك التدابير هى بدائل للحبس الاحتياطي المتعارف عليها دوليا كالاسورة الإلكترونية، والتردد على أقسام الشرطة كل فترة تحدد سلفا لتأكيد التواجد، وكذلك الضمانات المالية والضمانات المعنية بالسكن وخلافه.
هكذا يتعامل مجلس النواب مع مخرجات السيسي للحوار الوطني، والتي سبق أن وعد عدة مرات بتنفيذها كلية. ما يتبقى اليوم هو أن مجلس النواب سيعرض عليه في دورته التشريعية الأخيرة والتي ستبدأ بعد أيام قليلة، ما توصلت له لجنة الشئون الدستورية والتشريعية. فهل سيستمر المجلس في تلكؤه في تنفيذ مخرجات الحوار؟ وهل ستتجاهل السلطات العامة ما جاءت به تلك المخرجات لتحويلها لقرارات؟ الأيام والأسابيع القليلة القادمة، هي وحدها التى ستكشف عن مدى جدية التعامل مع مخرجات الحوارالوطنى.