في عالم السياسة المعقد، تتشابك المصالح وتتصادم العلاقات، وهنا يطرح البعض سؤالا منطقياً:
ما الذي يدفع الجالس على رأس السلطة.. أي سلطة..إلى اتخاذ قرار بالعفو عن خصومه؟
الإجابة :- تتجلى في ما يمكن أن يُعرف بقواعد خصومة الكبار، حيث تتجاوز الخصومة الشخصية إلى مفاهيم أعمق تتعلق بالمبادئ والقيم الإنسانية التي يجب أن تحكم تصرفات السياسيين.خاصه أهل الحكم منهم.
تذكرت قصة رواها لي أستاذي في الصحافة، مصطفى أمين، فرغم عمق الخلاف ،كان لا يخفي الاحترام والإعجاب لمصطفى النحاس باشا، الزعيم الوطني الذي عُرف بنزاهته وكرامته وطيبه قلبه.
و رغم أنني لم أُسعَد بلقاء النحاس باشا الذي رحل عن عالمنا، بعد مولدي بعام واحد
إلا أنني عشت مع قيمه ومبادئه من خلال ما قرأته عنه وما تعلمته من أستاذي الراحل وتلميذة فؤاد سراج الدين باشا
كان النحاس رمزاً للوطنية المصرية، وتعلمنا في مدرسته أن السياسة ليست مجرد صراع على سلطة، بل هي فن إدارة العلاقات الإنسانية بذكاء وحنكة.
في أحد الأيام، عام 1985 وخلال لقاء لي مع الأستاذ مصطفى أمين في مكتبه بجريدة “أخبار اليوم”، شاركني قصة تحمل في طياتها دلالات عميقة.
روى لي :- كيف أن الأمير محمد علي، في إحدى المناسبات، قابل حافظ رمضان، رئيس الحزب الوطني،في هذا الوقت وأخطأ في لقبه بشكل غير مقصود، فقال له شعبان باشا!!
(بدلا من رمضان)!!
مما دفع مصطفى امين لنشر اقتراح في “آخر ساعة” بتعيين رائد لولي العهد. علي غرار رائد الملك فاروق وهو طفل احمد باشا حسنين!!
اعتبر الأمير هذا الاقتراح إهانة، فرفع الامير دعوي وصدر حكم بالسجن ضد مصطفى أمين،لمده سته اشهر -مع وقف التنفيذ-.
كانت علاقة النحاس وأمين متوترة -دائماً-بسبب تجاوز امين في خلافة و نقده للنحاس ومع ذلك، عندما جاءت حكومة النحاس، ١٩٤٦و التي كان أمين يهاجمها بشراسة، أصدر النحاس قراراً بالعفو عن أمين، رغم الخلافات السياسية الواضحة بينهما.
واتصل مصطفى امين بصبري باشا ابو علم
ليسأله:-
هل يعرف النحاس باشا بهذا القرار؟
فرد ابو علم قائلا:-
هو الذي أضاف اسمك!!
ختاماً: إن التسامح السياسي هو عنصر أساسي لا غنى عنه في بناء مجتمع صحي ومستدام. لذا، يمكن أن نتعلم من كبار الشخصيات مثل النحاس وأمين أن السياسة تتطلب شجاعة في اتخاذ القرارات، وأن قيم التسامح والاحترام تساهم في تعزيز الوحدة الوطنية وتخفيف التوترات.
إن هذا الفهم العميق للتسامح يظل درساً يتردد صداه في عالمنا اليوم، حيث نحتاج بشدة إلى تعزيز الحوار والتفاهم بين جميع الأطراف، والعمل معاً من أجل مستقبل أفضل وأكثر إشراقاً.
هذا القرار لم يكن مجرد إجراء إداري، من رفعه رئيس الوزراء بل كان تجسيداً لقيم التسامح والكرم في السياسة، حيث يُظهر النحاس قوة شخصيته وعمق إدراكه وأن الخصومة لا ينبغي أن تمنع الاعتراف بالحق. والإنتصار له، في هذه اللحظة، يتجلى مفهوم خصومة الكبار، حيث يكون للعدالة والإنصاف الغلبة على المشاعر الشخصية. وهذا هو النهج الذي أتمني أن تتبعه السلطه في مصر الآن.
فهذا الموقف من النحاس يعكس حقيقة أن القادة الذين يتمتعون برؤية بعيدة المدى يعرفون أن التسامح يمكن أن يكون أداة قوية في تعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي، وليس العكس كما ترى بعض الأحيان الأجهزة الأمنية!!
التسامح لا يعني ضعفاً ولا يعني التغاضي عن الأخطاء أو التنازل عن المبادئ. بل هو القدرة على تجاوز الخلافات الشخصيه و القديمة ،والعمل من أجل مصلحة الوطن . بعيداً عن غرور القوه وقواعد المنتصر والمهزوم