الانطلاقة نحو المجهول: من الانتخابات إلى الزنزانة
في أروقة الذكريات، وفي دهاليز النفس التي ترهقها الأسوار وتثقلها القيود، أجد نفسي أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام التي تقاذفتني فيها أمواج السجن العاتية. كانت تلك الأيام كأنها ليل طويل بلا فجر، لكنه ليل مفعم بالأسرار واللحظات الحافلة بالمعاني، تلك التي تشكلت من تجربة شخصية عميقة لا تنسى، تجربة وسمتني ووسمت حياتي، وجعلتني أعي معنى أن تكون أسيراً للظلم، ومجالداً لألوان القهر، ولكن معتصماً بالأمل والعزم، وكأنك تعلن في كل لحظة أن كلمتك، فكرك، وقلمك لن تنكسر، مهما كانت التحديات.
بداية السجن: هدوء ما قبل العاصفة
كانت البداية بعد الانتخابات الرئاسية التي شهدت فيها البلاد عبثاً سياسياً طالما أدركناه، ولكنه في تلك اللحظة، لحظة إعلان نتائجها المزورة، تجلى بأبشع صوره، فأضحت العدالة مهزلة أمام عيناي. وسرعان ما وجدت نفسي في مواجهة محاكمة هزلية، محاكمة كانت مجرد صفحة جديدة في كتاب الظلم المفتوح، قضية توكيلات حزب الغد، تلك المسرحية التي أدارها المستشار عادل عبد السلام جمعة، محاولاً أن يفرض الصمت على صوتي الذي ظل صداحاً بالحق، في 17 جلسة بدأت في 28 يونيو 2005 وانتهت بجلسة العاشر من ديسمبر من نفس العام، حيث صدر القرار المباغت بحبسي.
في تلك اللحظة، لم أكن أسيراً للزمن بقدر ما كنت أسيراً لفكرة أن الكلمة قد تُحبس، ولكنها لا تُقتل، وأن السجن، رغم قسوته، قد يكون المكان الذي تنمو فيه الأفكار وتترعرع. وهكذا بدأت رحلتي داخل جدران السجن، تلك الرحلة التي استمرت أربع سنوات وسبعة شهور، كانت زاخرة بالمعاني والدروس، أشبه بكتاب مفتوح على مصراعيه، يدعوني كل يوم إلى قراءة فصل جديد، وإلى الغوص في أعماق النفس واكتشاف مكامن القوة فيها.
الأيام الأولى: تأمل واكتشاف
كانت الأيام الأولى في السجن هادئة نسبياً، بل يمكن أن أقول إنها كانت فترة تأمل واكتشاف. كنت أستفيد من كل لحظة فيها، أقرأ وأكتب وأرتب أفكاري، وكأنني أعد العدة لمعركة طويلة مع الزمان. تلك الأشهر الثلاثة الأولى كانت فترة سماح، فترة لم تكن فيها القيود قد أحكمت بعد، ولم تكن فيها تعليمات المنع قد صدرت. ولكن سرعان ما تبدلت الأحوال عندما جاءني محمود وجدي، رئيس مصلحة السجون آنذاك، ليخبرني بأنني ممنوع من الكتابة. كانت تلك اللحظة فاصلة في حياتي داخل السجن، إذ تحولت من مرحلة التأمل إلى مرحلة التحدي، التحدي الذي كان يعني لي الحياة أو الموت.
التحدي والكتابة: صوت لا يخبو
في تلك المرحلة، أصبح السجن مدرسة، ولكنها مدرسة قاسية، مدرسة تعلمت فيها أن الكلمة قد تكون أقوى من السيف، وأن الأفكار قد تحلق بعيداً رغم كل القيود. وبدأت أكتب، رغم كل المنع والتحذيرات، كنت أكتب لأن الكتابة كانت نافذتي الوحيدة إلى العالم، كانت طريقتي في البقاء على قيد الحياة. لم يكن الأمر سهلاً، بل كان أشبه بمعركة يومية مع الزمن، مع الحراس، ومع كل من حاول أن يكسر قلمي.
التحدي الأكبر: تهريب الأفكار بين القضبان
ذات يوم، جاءني شاويش بسيط يُدعى محمد عنتر، رجل بسيط من الفيوم، يعاني من مرض في القلب، ولكنه كان يحمل في قلبه شهامة نادرة. اقترح عليّ أن يساعدني في تهريب مقالاتي إلى الخارج. كان الأمر محفوفاً بالمخاطر، ولكنني قررت أن أجرب. للأسف، تم اكتشاف الأمر، وتمت معاقبة محمد عنتر بالسجن العسكري لمدة ستة أشهر، رغم مرضه. خرج بعدها من السجن وتوفي، ولم أتمكن حتى من شكره على شهامته. كان ذلك درساً قاسياً، ولكنه زادني إصراراً على أن أفكاري لن تُحبس، وأن كلماتي ستصل إلى العالم مهما كانت الظروف.
العزلة التامة: صراع مع الظلام
ثم جاءت المرحلة الثانية، مرحلة العزلة الحقيقية، حيث تم عزلي تماماً ومنع أي تواصل مع العالم الخارجي. كان التحدي الأكبر في تلك الفترة هو كيف أخرج مقالاتي إلى الخارج. كانت السلطات تبذل قصارى جهدها لمنع أي تسريب لأفكاري، وكانوا يغيرون ضباط السجن بانتظام، يفتشون الزنازين بعناية، ولكنني كنت أجد دائماً طريقة لإيصال كلماتي إلى العالم. كنت أكتب على الورق المسطر الذي يتم عده يومياً، وأستخدم ورق الكربون لنسخ المقالات، ثم أهرب النسخ بأساليب مبتكرة، أحياناً بمساعدة أشخاص من خارج السجن.
لحظات إنسانية: بين الحياة والموت
لكن الحياة في السجن لم تكن فقط كتابة وتحدي. كانت هناك لحظات إنسانية، لحظات قاسية ولكنها علمتني الكثير عن النفس البشرية. أذكر أنني في مرحلة ما بعد العزل الانفرادي، كان يُرسل إليّ سجناء يعانون من أمراض خطيرة، أو يكونون في مراحل متقدمة من المرض. كان الهدف واضحاً: وضع أشخاص من السهل أن يتسبّبوا في قتلي، ولكن النتيجة كانت على العكس تماماً. كانت تلك التجارب تجعلني أقترب أكثر من النفس البشرية، وتعلمت منها الكثير عن معاناة الآخرين، وعن القدرة على التحمل في أصعب الظروف.
صديق من الخليج: تجربة جديدة
في إحدى المرات، أرسلوا إليّ شاباً خليجياً كان مصاباً بمرض نفسي خطير. كان انطوائياً إلى حد كبير، ولكنه كان متعلماً ومثقفاً، رغم مرضه. تحول هذا الشاب إلى رفيق لي، وكنا نتبادل الحديث ونتعلم من بعضنا البعض. كان يحاول دائماً أن يساعدني في ترجمة بعض الأمور، وكان يتعامل مع ضباط السجن بطريقة تثير دهشتهم وخوفهم في آن واحد. في يوم من الأيام، قام بضرب ضابط على عنقه، فأدت تلك الضربة إلى إصابته إصابة بالغة، وتم نقل الشاب إلى مستشفى الأمراض العقلية، وحرمت من رفيق كان خير صديق في هذه المرحلة الصعبة.
النهاية: النصر على الجدران
تلك المرحلة من حياتي كانت مليئة بالتجارب التي لا تنسى. كانت هناك لحظات قاسية، ولكنها كانت مليئة بالدروس والعبر. كان السجن بالنسبة لي أكبر وأهم كتاب قرأته في حياتي، كتاب علمتني صفحاته كيف أواجه الظلم وكيف أتحمل القهر، وكيف أجد الأمل في أصعب اللحظات.
ورغم كل تلك المعاناة، لم أفقد الأمل. كنت أعلم أنني سأخرج من السجن يوماً ما، وأن كلماتي ستظل حية، وأن أفكاري ستبقى شاهداً على تلك الفترة القاسية من حياتي. وعندما أُطلق سراحي في يوليو 2009، شعرت بأنني قد انتصرت في معركة طويلة، معركة لم تكن فقط مع سجاني، بل مع نفسي أيضاً.
لقد كانت هذه التجربة جزءاً لا يتجزأ من حياتي، تجربة صاغتني وأعادت تشكيل رؤيتي للعالم وللحياة. ورغم قسوة السجن، فقد خرجت منه أقوى، وأكثر إيماناً بأن الكلمة هي أقوى سلاح في مواجهة الظلم، وأن الأفكار لا تُحبس مهما كانت القيود.