مقالات ورأى

د. أيمن نور يكتب: ذاكرتى عمل تركيبى بانورامى، كالبناء السيمفونى مكون من ملايين الأشياء

ذاكرتي عمل تركيبي بانورامي، كالبناء السيمفوني، مكون من ملايين الأشياء، بدءًا من مكاتيب السجن والحب، ورائحة الكتب، والأوراق القديمة، إلى مصحف أمي، والزمن المحفور على جبين أبي…

والجرح الساكن في جبين ابني نور

**

أمس ذهب الصديق القديم حفيد فؤاد باشا سراج الدين (فؤاد بدراوي) وعدد من قيادات الحزب لقبر سعد باشا للاعتذار له في ذكراه (٢٣ آغسطس)وسبب العتذار هو هذا الذي اصاب الوفد من هوان وانحدار

هذا الاعتذار الواجب لسعد ذكرني اني مدين له باعتذار مشابه تأخر سنوات ستكشف لكم تفاصيله هذه القصة المثيرة ———————

بقلم د. أيمن نور قبل أن يموت دعانى لمنزله فى حدائق القبة. أخرج الرجل الذى تجاوز التسعين عاماً من غرفة نومه عدة صناديق من الكارتون، وقال لى ليس لدى أبناء، ولا زوجة، لذا قررت أن أتبرع بكتبى للكنيسة، أما ثروتى الحقيقية فهى لك!!

حملت الصناديق فى سيارتى، والفضول يقتلنى لأعرف ما بداخلها بين ركام من التراب والصحف القديمة جداً، والتى يحمل بعضها إشارات بقلم سعد زغلول -دوائر وتعليقات وعلامات استفهام وتعجب- على هامش مقالات لطه حسين وهيكل باشا، وجريدة «السياسة الأسبوعية» وغيرها.

بين هذه الصحف التى مر على صدورها وعثورى عليها ثلاثة أرباع قرن وجدت رسائل خطية موجهة لصفية هانم أو «خانم» كما كان يكتب سعد زغلول. لأول وهلة تصورت أنى عثرت على كنز وثروة تاريخية أهداها لىهذا الشيخ القبطى الذى عمل لسنوات -ومنذ طفولته- فى بيت الأمة وحتى وفاة صفية زغلول!!

للأسف كانت معظم الرسائل على عكس ما تمنيت، أو توقعت، فبعضها بلا تاريخ، وأحياناً بلا توقيع، وأغلبها بلا مضمون!!

الرسائل شف مضمونها أن سعد زغلول أرسلها من منفاه، حيث إن مضمونها شبه متكرر وبالنص!! مع تغيير فى ترتيب السطور!!

وملخصها جميعاً أن سعد يطلب من زوجته أن تستعجل إرسال النقود أو ينتقد تأخرها فى إرسالها، ويطلب منها إرسال فانلاتوجوارب ثقيلة لمواجهة البرد!! أو يسأل لماذا لم يتم إرسال الكوفية والكلسون الصوف؟!

عندما لم أجد غير هذا، فى الخطابات، ضحكت، وقلت لنفسى لو يعرف سعد باشا، أن هذه الخطابات ستصل يوماً لمثلى لتحمل البرد، وتأخر الفلوس وما خط سطراً واحداً منها ؟!

مات عم «نسيم» ومر على هذه الحكاية قرابة 27 عاماً حتى تذكرتها مؤخراً وأنا أقرأ بعضاً من رسائلى، فقررت أن أتخلص منها بتمزيقها نظراً لضيق مساحة الذاكرة والتى لا تسمح بالاحتفاظ بأشياء لا يريد غيرى الاحتفاظ بها.

قبل أن أتخلص من هذه الرسائل طالعتها سريعاً، فإذا بى أكتشف فجأة أنها تكاد تكون بالنص ذات الرسائل التى أخذت على سعد زغلول أنه انشغل بتحريرها، رغم تفاهة مضمونها وفقاً لتقديرى منذ 20 عاماً..

لم أكن أعرف منذ 27 عاماً أن المسجون أو المُبعد، أو المحروم من أهله، إنسان يأكل ويشرب ويبرد ويمرض!! بعض الأمور التى قد تبدو فى عيون الناس تافهة وثانوية..

عرفت بعد دخولى السجن، وبعد إبعادى خارج مصر أنها تتحول إلى أولوية قصوى فى حياة الإنسان مهما كان شأنه وقدره وفهمه، وتتحول بعد السجن لأولويات أكثر قسوة إذا لم تجد من تنتظرها منه!! الحياة فى السجن تضيق، وتضيق، حتى تصبح هذه الأمور الصغيرة مطالب «تاريخية»!! والحياة بعد السجن تتسع، فتضيق أنت.

وربما تخجل من بعض مطالبك «التاريخية»، والأكثر إثارة للألم والضيق من خطابات السجن «الممزقة» ألا تجد أصلاً من توجه له مثل هذه الخطابات!!

الم اقل لكم في البداية :- ——————————

ذاكرتى عمل تركيبى بانورامى، كالبناء السيمفونى مكون من ملايين الأشياء

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى