مقالات ورأى

خيري عمر يكتب : في الاقتصاد السياسي للحوار الوطني المصري

مع صدور تقرير “توصيات لجان ومجلس أمناء الحوار الوطني”، أغسطس/ آب 2023، تتشكّل ملامح واتجاهات النقاش حول قضايا الإصلاح والتنمية. وباعتباره حصيلة مناقشات أطرافه، ترتبط فاعلية مقترحات المحاور الثلاثة بإمكانية وضع قراءات المشاركين للمشكلات السياسية والاقتصادية ضمن سياقات رسمية ومدى قوّتها التعبيرية عن المجتمع.

وهذا ما يثير النقاش بشأن الانعكاس السياسي لعمليات الحوار الوطني على احتمالية تطوّره إلى مؤسّسة وسيطة بين المجتمع والدولة والمساهمة في تشكيل النخبة ووضع ملامح خريطة الأولويات السياسية والاجتماعية.

في الحاجة للحوار الوطني
على مدى فترة الجمهورية في مصر، لم تقدّم تجارب الحوار السابقة خلاصات متناسبة مع التحدّيات السياسية، وكانت أقرب إلى الدعاية منها إلى أفكار وخريطة عمل للنظر في المشكلات. وبدت العقود السابقة نوعا من التجربة المصحوبة بسياسات اجتماعية ناقصة، فقد هيمنت القرارات على المناقشات،

فالتحوّل من ملكية الدولة إلى الخصخصة كان استجابة للتغيرات في النظام الدولي، ولم يكن وفق عملية تخطيط مستقلة، وهو ما أدّى إلى تشوّهات عانى منها المجتمع والدولة. ولذلك، اتسمت مراحل التَغير في الجمهورية بالانقطاع، بحيث يصعب وجود رابط فكريٍ ما بين مرحلتي الاشتراكية والانفتاح الاقتصادي،

فقد استند كلٌ منها على أفكارٍ لا تضع أسساً للنهضة الشاملة وفقيرة لنموذج التحديث. وبغض النظر عن تغيّر سياسات تلك العقود، فقد كانت أكثر ميلاً إلى عمليات إجرائية نتجت عن القصور الذاتي للنظام السياسي، حيث استمرّت في التراجع حتى بداية 2011، عندما كشف الخلاف بشأن المبادئ فوق الدستورية عن تَصحّر المصادر الفكرية ونقص مشاريع الإصلاح لدى الأحزاب والحركات السياسية.


ومن وجهة تاريخية؛ عانت التركيبة السياسية في مصر من جانبين؛ تشوّه الحراك الاجتماعي والغُلو الأيديولوجي، بحيث راكمت صورة سلبية للتنافس والاستقطاب.

شكّل هذا المناخ قيوداً على نشر التسامح حالت دون تجانس النخبة السياسية أو الاجتماعية. ولذلك، مرَّت البلاد بدورات متباينة من التَحزُّب والاصطفاف المَرضي. ويرتبط نقص المشروع السياسي لدى الأحزاب بواحد من جذور الاستقطاب.

تكشف الدورات الانتخابية مدى ضعف البرامج الحزبية، وعدم قدرتها على تقديم قراءات متطوّرة، وكانت مقترحاتها، في أفضل الأحوال، مقولاتٍ أوليةً بشأن التنمية والإصلاح وحِزم من المسارات غير المترابطة. وهنا تبدو الحاجة لاستكشاف التوافق الشعبي والقدرة على بناء نموذج تنميةٍ يراعي كل تطلعات المجتمع.

لا يبدو التقسيم الثنائي على أساس سلطة ومعارضة كافياً لتقييم الحوار الوطني، فالمسألة، في أساسها، تشاركية

تعدّد القضايا
قد تمثل الدعوة إلى الحوار الوطني في إبريل/ نيسان 2022 استجابة للطلب على التفكير الجماعي في المشكلات المزمنة والراهنة، وهي تواجه تحدّي الانتقال بالتفكير من المؤقت إلى التخطيطي ومن الجزئي إلى الكُلّي. وبعد استغراق العمليات التحضيرية عاماً، بدأ انعقاد الجلسات في بداية مايو/ أيار 2023 لتنتهي في 22 يونيو/ حزيران من العام نفسه، بإجمالي 31 جلسة.

سارت هذه الفترة في وضع الخطة الإدارية وترتيب جدول المناقشات، بالإضافة إلى تعريف القضايا وقواعد السير فيها، ليتضمّن جدول الاجتماعات 19 قضية أساسية و113 فرعية. ومن وجهة كثافة المشركين، شملت المناقشات آلاف المشاركين والحضور من مختلف التخصّصات. وبغض النظر عن اتساع جدول الحوار الوطني،

تبدو مسألة التشابك بين القضايا والملفات كاشفةً عن صعوبة رسم علاقات الانتقال والتطوير وملامحهما، وخصوصاً فيما يتعلق بالمفاضلة بين السياسة، الاقتصاد والاجتماع، وذلك نظراً إلى تماثل حاجة المحاور في الإصلاح أو التصحيح.
في مثل هذه السياقات،

لا يبدو التقسيم الثنائي على أساس سلطة ومعارضة كافياً لتقييم الحوار الوطني، فالمسألة، في أساسها، تشاركية أكثر ارتباطاً بالقدرة على ابتكار إطار للسياسات وتطبيقاتها. وهنا،

يكون توسيع نطاق النخبة شكلاً موضوعياً لهيكلة المستقلين والأكاديميين ضمن النقاش العام لتعويض نقص المساهمات الحزبية في الشؤون العامة. ولذلك، يمثّل توسيع فئات المشاركين ضرورياً للانفتاح على أفكار مختلفة والخروج من فخّ الاستقطاب التقليدي ما بين الأحزاب والتيارات السياسية.


وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى مشاركة الجامعيين والباحثين في تخصّصات الاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلوم التطبيقية عاملاً إيجابياً لمعالجة تشوّهات التمثيل السياسي والاجتماعي. قد تكون هذه التجربة ملهمة في التعامل مع المزج ما بين الانتقال الاجتماعي والتَشكل السياسي بخفض سطوة الحزبية وتعويض التجربة السلبية لجيل السبعينيات،

والماثلة في تغييب الرديف في الأحزاب والحركات الاجتماعية ومزاحمته. وباعتبار تجاوز الحزبيين، النقابيين والشخصيات العامة، يزيد دمج الأكاديميين المستقلين في النقاش العام من فرصة التفكير غير النمطي تجاه المشكلات في المحاور المختلفة.

يفتح التنوع في الجلسة الافتتاحية، الطريق أمام تعدّد منظور تناول أسباب الالتواء السياسي والفكري المستمرة من العقود الماضية

آفاق محتوى
بشكل عام، يفتح التنوع في الجلسة الافتتاحية، الطريق أمام تعدّد منظور تناول أسباب الالتواء السياسي والفكري المستمرة من العقود الماضية. ووفق كلمات رئيس الجمهورية، عبد الفتاح السيسي،

ورئيس لجنة الخمسين، عمرو موسى، ومستشار الحوار الوطني، حسام بدراوي، كشفت المناقشات عن تنوّع وجهات النظر لمسار الحوار السياسي، وصولاً إلى خريطة طريق “الجمهورية الجديدة”،

ما يمكن اعتبارها مؤشّرات خصوبةٍ في التداول، بشأن مستقبل الدولة ومرونة الخيارات السياسية. كانت الأحاديث صريحةً في قراءة تطلعات الشعب المصري وإدراجها في متن التناول، فقد قدم كلٌ من المتحدّثين والمتدخّلين سرداً لتحدّيات التعبير عن الجماهير وفلسفة التصدي للمشكلات في ضوء تحليل قدرات الدولة والبحث عن البدائل. 


بدت تحفّظات على تناول السياسة الخارجية والأمن القومي، وهو ما قد يكون مفهوماً في ظل التعقيدات الإقليمية وانخفاض ملاءمة مناقشتها ضمن وسائل الإعلام. وفيما يخص استثناء الحديث عن تعديلات دستورية، اقتصر التناول على تفعيل دستور 2014، واعتباره كافياً لاهتمامات الحوار الوطني.


وفي هذا السياق، تركّزت أولويات التناول في البحث عن التوافقات بشأن تحسين البيئة السياسية ومراجعة التشريعات. ويمكن النظر إلى ربط تمديد الإشراف القضائي على الانتخابات بتطوّر اللجنة الوطنية للانتخابات من ناحيتي الإدارة والتأهيل البشري نوعاً من الانتقال التدريجي للمؤسّسية،

بحيث لا تكون عملية الإشراف موسميةً وهشّة، وهي آراء تتكامل مع مراجعة النظام الانتخابي بما يفتح قدراً من المرونة في التفكير السياسي، بحيث تسمح باستجابة التشريعات للتغيرات السياسية واحتياجات المجتمع.

حاولت مناقشات المحور الاقتصادي تقديم تصورها للتوازن الاقتصادي من خلال تنشيط القطاعات الاقتصادية

وبجانب اقتراحات تعديل النظام الانتخابي، قدّم الحوار الوطني توصيات بتعديل قانوني الجمعيات الأهلية، والاستثمار الخاص. وكان لافتاً، اقتراح إنشاء “مفوضية مناهضة التمييز”،

ومنحها الاختصاصات الواردة في (المادة 53 من الدستور) مع أخذ رأيها في مشروعات القوانين في محاولة تؤدي لترسيم مُخرجات الحوار السياسي، وخصوصاً ما يرتبط بالتطلع لتوسيع المشاركة الشعبية ونشر التنمية جغرافياً على مختلف أقاليم الدولة. وبشكل عام، تعكس هذه الحِزمة من التوصيات حالة تقاربٍ في تفكير المشاركين تجاه ملفّات أساسية من الممكن أن تؤدّي إلى إنضاج العمليات السياسية.


وعلى المستوى الاقتصادي، وفي مناقشات غير تقليدية، ظهرت مداخل لمعالجة الفجوة المُضاعفة بين معدل نمو كلٍ من الاقتصاد (5.2%) والسكان (2.2%)، لم تستلم المناقشات للحديث عن المشكلة السكانية، فقد ظهرت آراء تنحو لتحسين الأداء الاقتصادي ومراجعة السياسات السكانية لرفع كفاءة الموارد البشرية وإدراجها في عمليات الإنتاج.

قد تشكّل معالجة مشكلة الفقر مناسبة لخفض التفاوت بين معدّلي الزيادة السكانية والنمو الاقتصادي، وذلك في التكامل مع المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص. 


وفي ظل التعامل مع صعوبات تمويل الاستثمار، يظهر التناسب بين التمويلين، الوطني والأجنبي، واحداً من تحدّيات مُراكمة الفائض الرأسمالي، حيث يفرض العامل الخارجي قيوداً على الحراك الاقتصادي للدولة.

تبدو هذه المشكلة مزمنة، ولذلك، يكون وضع السياسات العامة على أساس الميزات النسبية للموارد ورأس المال الاجتماعي والفكري وإنشاء مسارات متضافرة للتنمية، لتقوم على التحرك باتجاه التوازن بين الإنفاق والاستهلاك.


وبشكل عام، حاولت مناقشات المحور الاقتصادي تقديم تصورها للتوازن الاقتصادي من خلال تنشيط القطاعات الاقتصادية وتماثل السير في تنميتها مع الاهتمام بالتوسع في القطاع الخاص، ولذلك، بدا الحديث عن تسهيلات الاستثمار ودعم الصناعة والتجارة، فيما تقوم الدولة ببعض الوظائف الاقتصادية وفتح الأسواق ومتزامنة مع إصلاح المالية العامة.

يساعد تنوّع الأفكار على بناء مظلة اختيارات وبدائل تصلح المستقبل وتتسع للعمل للمزج ما بين النطاقين الخاص والعام

وفي ظل تسارع التغير الاجتماعي، ناقش المحور المجتمعي مخاطر تهديد تماسك الأسرة وأسبابها. قام التناول على ترجيح المنظور الوطني في مقابل تفكيك احتكار الأجندة الدولية لمفهوم الأسرة لتعزيز قدرة المجتمع الثقافي على بلورة نظرية أو تجربة خاصة كافية لتلبية القواعد السلوكية وقِيَم النظام العام والتكيّف مع تحديات عولمة الاتصال.

وأبدت المناقشات اهتماماً بتنمية الوعي بالمحتوى الاجتماعي والحضاري لسد ثغراتٍ تنفذ منها مدوّنة الحقوق الاجتماعية الدولية وتتجاوز الخصوصية الوطنية، وهي خطوةٌ ملائمةٌ لسفك الاشتباك بين التشريعات الوطنية والالتزامات التي تفرضها الأطر الدولية.


ومن وجهة أساسية، قامت مقترحات ثقافة النوع على الانفتاح المتماثل على الجنسين والانتقال من خطاب التمكين للحقوق المشتركة، ليعكس فلسفة تحترم الخصوصية في ترتيب علاقات الأسرة وفيما بين الأجيال المختلفة. وهو ما يؤسس لنقل مناقشة قضايا المرأة من مركزية الثقافة الغربية، ليكون النظام الاجتماعي الوطني ضمن المسارات التأسيسية.


وتوضح المناقشات وجود مزجٍ بين البُعد الحداثي والمُكون المحافظ، ما يمثل أرضية ملائمة للحراك الثقافي وتأهيل البيروقراطية التقليدية للاستجابة للتغير المتسارع في الاتصال.

يساعد هذا المدخل في ربط المحتوى الثقافي برغبات الجماهير والانتقال الاجتماعي، ومعالجة الانحراف عن النظام العام على أساس مساهمات المجتمع المدني والدولة في نشر المحتوى وصياغة صناعة التشريعات اللازمة لمراجعة الاحتياجات الثقافية.

فرصة التحوّل المؤسّسي للحوار الوطني
يمكن القول إن الخط المشترك لاقتراحات الحوار الوطني يسير نحو توسيع دور المجتمع والقطاع الخاص في السياسات العامة، وتقوية دور الأحزاب،

وتمثل هذه السياقات لأن يكون فرصة لملء فراغ العقود السابقة واستكمال المشاريع الفكرية، وإطاراً لتبادل الأفكار، وأرضية للمصالح المشتركة وعِلاجاً لعيوب الأيديولوجيا. وبغض النظر عن مدى تناسق المقترحات، يساعد تنوّع الأفكار على بناء مظلة اختيارات وبدائل تصلح المستقبل وتتسع للعمل للمزج ما بين النطاقين الخاص والعام.

يعكس تقرير توصيات الحوار الوطني وجود علاقة وثيقة مع مناقشات الجلسات، لم تقتصر على تجميع الآراء المتشابهة، بل على ترتيبها وفق كثافة النقاش واتجاهاته

ومع تعدّد أطر النقاش واتساع القضايا، يندرج الحوار ضمن آليات الرأي أو التشريع. تبدو هذه النقطة مهمّة لتنظيم مساهمات المجتمع في مرحلة البناء والتطوير. تمثل أفكار إعادة الهيكلة طريقة مناسبة للثورة الإدارية.

وفي سياق طرح “المجلس الوطني للتعليم والتدريب” واقتراح “مفوضية مناهضة التمييز”، وهي مترافقة مع تسمية “الأكاديمية العسكرية المصرية”، لتمثل مؤشّرات على مراجعة واسعة لميراثية النظم السابقة. 


وبشكل عام، يعكس تقرير توصيات الحوار الوطني وجود علاقة وثيقة مع مناقشات الجلسات، لم تقتصر على تجميع الآراء المتشابهة، بل على ترتيبها وفق كثافة النقاش واتجاهاته. وحسب تقسيم جدول الأعمال وفترة الانعقاد القصيرة نسبياً، يمكن تصنيف حصيلة المناقشات مرحلة تأسيسية لمعادلات إصلاحية وتصحيحية، تقوم في جوانبها على تقارب الدولة، المجتمع والقطاع الخاص، تبدأ بالاقتراب من وصف المشكلات الأساسية وتنتهي إلى تقديم سياسات ونماذج لحل المعضلات المزمنة. وهنا، تبدو أهمية التأثير المتبادل لقضايا السكان والتنمية،

الاقتصاد الكُلي والمالية العامة، الثقافة والتعليم، في رسم ملامح نموذج التطور والتنمية.
وفق المؤشّرات الراهنة، يمكن تقديم قراءتين للحوار الوطني، تتمثل الأولى في القراءة الفورية، حيث يساعد الاطلاع على اتجاهات النقاش ومسودة التوصيات في رسم ملامح (وتنوع) التفكير تجاه الحاجات الوطنية، بحيث تكشف عن إمكانات القوة والأفكار الكامنة والقابلة للتطوير،

وهي ما تؤسّس لقراءة مُمتدّة لفرصة تطوير الحوار السياسي، ليكون مؤسّسة وسيطة بين الدولة والمجتمع. وبالنظر إلى طبيعة علاقة مؤسّسة الحوار بالدولة، يمكن اعتبار تسهيل الأنشطة العلمية وتوسيع صلاحيات العمل الأهلي تطوّراً نوعيا، فبعدما كانت مناقشاتها داخل الأطر غير الرسمية،

تتم حالياً، بتنسيق مع الدولة. غير أن استقرار هذه النتائج المرحلية سوف يتوقف على تلاقي أولويات الحاجات الوطنية مع حدوث انتقال حقيقي للنخبة السياسية والاجتماعية.

المصدر عربى 21

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى