فاجأت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” الجميع، بانتخابها “يحيى السنوار” رئيسا للحركة، خلفا “لإسماعيل هنية” الذي اغتالته “إسرائيل” في قلب العاصمة الإيرانية طهران، بينما كان في زيارتها للمشاركة في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني “مسعود بزشكيان” الذي تم انتخابه خلفا للرئيس “رئيسي”، الذي لقي مصرعه في حادث لم يخل حتى الآن من شكوك وأصابع اتهام موجهة نحو “إسرائيل”.
وفي الوقت الذي صُدم البعض من هذا الاختيار، فإن عامة المتابعين اعتبروه الرد المناسب على عجرفة “نتنياهو”، ورفضة للمفاوضات بلغة دموية،
تعدت كل الحدود حين انتقلت من حرب الإبادة في غزة، ليصل مخطط اغتيالاته لقلب العاصمة الإيرانية.
وقد جاء انتخاب “السنوار” مفاجئا، في الوقت الذي كان البعض يتأهب لتسمية أحد رموز وقادة الشق السياسي والدبلوماسي في الخارج،
ممن يتمتعون برصيد وافر بين رموز وقادة الخارج، وقد بدا لهم أن الاختيار مثير للدهشة، في ضوء قيادة “السنوار” الفعلية للحرب من داخل غزة، بل ومن قلب أنفاقها،
في وقت تواجه فيه الحركة والشعب والقضية، أهم حضور شعبي عالمي وسياسي وإعلامي وقانوني، لم تشهده من قبل، بل واحتلالها لأوسع رقعة تغطية ومتابعة وتحليل، جعلت الحرب العالمية الأخرى في “أوكرانيا” هامشية بجوارها.
وقد اعتبره هذا البعض خيارا غير سياسي، لأنه يستحيل على من يدير أو يشرف على المعركة العسكرية الأخطر والأطول في تاريخ النضال الفلسطيني،
بل والصراع العربي الإسرائيلي، أن يلبي متطلباتها السياسية والإعلامية فضلا عن القانونية والحقوقية، بينما استقبل البعض الآخر اختيار “السنوار” بالترحيب، على أساس أنه الرد المناسب على اغتيال “إسماعيل هنية”، الذي يمثل الرأس السياسي للحركة،
بل ورئيس الجهاز الدبلوماسي الذي يدير التفاوض مع الكيان الصهيوني، جاء الاختيار ليؤكد المؤكد، وهو أن المعركة تُحسم في ميادين الحرب، وليس عبر دهاليز السياسة والدبلوماسية،
التي يتلاعب بها نتنياهو ويهين معها كل من شارك فيهاوإن كان ذلك بطبيعة الحال عبر وساطة قطرية/ مصرية، وذلك لأنه جاء في المقابل بمثابة “اغتيال” لاستراتيجية نتنياهو، التي تراهن على تفريغ القيادة والوجهة الاستراتيجية عبر الاغتيالات.
وعلى هذا تم النظر إلى هذا الاختيار في أحد أبعاده أنه يؤكد أن المقاومة لم ترضخ للضغوط القاسية التي تتعرض لها، وأنها لم تجنح للسلم وفق هذه الحرب البربرية، بل إنها تقدم أهم رموزها، ليجتمع القرار السياسي والميداني في يد واحدة داخل غزة.
إضافة للتكوين الفكري والسمات الشخصية التي يتمتع بها “السنوار”، والتي تجعله مؤهلا لهذا الموقع الهام وهذا الدور الحيوي،
فبعض الذين كانوا يتصورون أن فترات السجن الطويل تصيب بالعمي السياسي، فضلا عن الاستراتيجي، صدمتهم رؤية السنوار الاستراتيجية العميقة،
فضلا عن ثقافته الشاملة، وتجربة السجن الطويل التي صقلت شخصيته، وعمقت تكوينه الفكري والاجتماعي.
وإذا كان اغتيال “العاروري”، أحد أهم مهندسي تيار “محور المقاومة”، ثم اغتيال “هنية” في قلب طهران، هدفهما قطع هذه العلاقات أو تأزيمها،
فإذا بها تتعمق وتتكرس باختيار “السنوار” الذي يمثل ذات الرؤية، بل ربما هو قائدها، والأهم أنه نجح من خلالها في الانتقال بالتيار خطوة مهمة نحو حرب التحرير.
وهكذا يمكن أن نلاحظ كيف يتقدم البعد الرمزي والمعنوي، الذي يمثله اختيار “السنوار”، ليحتل سلم أولويات تقويم القرار، وليصبح اعتبار دلالة الاختيار محكومة بالسياق،
أكثر مما هي محكومة بنموذج القيادة التي يعبر عنها بشخصه، بل هي صاحبة القول الفصل في الترجيح.
ولأن لكل فريق من المرحبين والمندهشين وجهته، يصبح باب الموازنات هو المرجح، كما هو الغالب في القضايا السياسية، التي تحكمها في الأغلب الأعم معايير تقدير الموقف، ورؤية المصالح،
والنظر في المآلات والعواقب، وهي معايير ذاتية في جانب كبير منها، كما يمكنها أن تختلف من شخص لآخر، حسب موقعه ومعطيات التحليل المتاحة والرؤية التي ينطلق منها.
وعلى هذا فإن القراءة الأكثر دقة، والتي تعبر بطبيعة الحال، عما يتوفر لها من معطيات ومعلومات، هي التي تنظر للأمر من زاوية المصالح المتحققة أو الممكنة،
إضافة إلى إيكال مجمل التقويم الكامل لأصحابه، فهم يتخذون قراراتهم بناء على ما توفر أمامهم من معلومات غير متاحة لغيرهم، وبناء على خطتهم الاستراتيجية التي عكفوا على بنائها، ويعملون على تنفيذها وفق ما توفر لهم من إمكانات وقدرات،
وهو ما لا يمنع بطبيعة الحال من الاجتهاد، والعمل على المتابعة وتبصير الرأي العام، ولا سيما أن الأمر يتعلق بقضية عامة يتابعها الجميع، علما بأن مصير منطقتنا يتعلق بنتائج هذا الصراع إلى حد كبير،
بل يتعلق به مصير العالم أجمع. فالصراع مع المشروع الصهيوني يبلور رؤية جديدة للعالم، لأنه يرتبط بكل قضايا العالم، السياسية والأمنية، والاستراتيجية، والثقافية، والاقتصادية..
وفي هذا السياق يجب أن نؤكد أن قضية فلسطين هي جوهر وقلب العالم، فهي ليست مجرد رافعة لأمة بعينها، بل رافعة أممية لكل الأمم، فهي تحشد كل خصوم هيمنة القطب الأوحد، لينتصروا لعالم جديد، لا تذله الإمبريالية، ولا تفقره الرأسمالية.
ومن هذا المنطلق فإن الموازنة بين اختيار “السنوار”، واختيار غيره من الجناح السياسي بالخارج، إذا افترضنا أنه الوجه المقابل للاختيار الذي تم، تؤدي إلى أن اختيار “السنوار” يحقق أو حقق بالفعل أهدافا عديدة:
أولها، أنه رسالة قوية لـ”نتنياهو” وفريقه بأن مراهنته على اغتيال القادة لن تؤدي إلا للأخطر، فضلا عن أن استراتيجية الاغتيالات، التي لم تحقق المرجو منها على مدى علاقة الكيان الصهيوني بحركات المقاومة الفلسطينية، برغم أنها استراتيجية ثابتة ويعول عليها كثيرا، تقف اليوم أعجز من أي وقت مضى.
كما أن تصعيد “السنوار” في ضوء أنه “مفكر الطوفان”، و”مهندس المقاومة” التي أعقبته، والتي تفوقت على الجيوش النظامية التي لم تصمد في عام ١٩٦٧ أمام الكيان الصهيوني أكثر من ستة أيام،
هو أنسب قائد للمرحلة سواء بشقها السياسي أم العسكري، علما بأن الشق السياسي والدبلوماسي لن يعدم قادة متمرسين، كما لديهم مساحة حركة في الخارج سيكون الجميع في حاجة إليها، أكثر من حاجتهم لمحاصرتها.
كما أن المتابع لخلفيات عقدة “نتنياهو”، الذي أشرف على صفقة “شاليط” التي تم بموجبها الإفراج عن “السنوار” و”العاروري”، يجعل الاختيار موجها بشكل مباشر لتمزيق صورة نتنياهو في الشارع الإسرائيلي، ووضعه فوق فوهة بركان الانقسام الداخلي الذي يزلزل “إسرائيل”، والذي أصبح مرشحا للتعمق والتكريس في ضوء بروز معطيات جديدة لفشل استراتيجية نتنياهو.
كما أن المتابع لمعركة “سيف القدس” من زاوية ملامح التناقض ونبرة التحدي بين “السنوار” و”نتنياهو” يكتشف رسائل أخرى مهمة، فالصدمة هي الأقرب لملامح “نتنياهو” حين يبلغه الاختيار! وهو ما يجعل رسالة التحدي وإحراج “نتنياهو” استراتيجيا في قلب هذا الاختيار،
ولا سيما أنه أعلن عن تصميمه على اعتقال أو قتل “السنوار”، ضمن فريق القيادة الذي خطط للسابع من أكتوبر، فإذا به يواجَه بإعادة ترتيب أعلى سلم القيادة الحمساوية،
ومن ثم أعلى رأس الهرم المقاوم، ليجد نفسه في وجه لوجه مع السنوار، السنوار سياسيا كما السنوار عسكريا.
وفي هذا السياق أيضا تبرز رسالة” حماس” للمجتمع الصهيوني: ما وعدكم “نتنياهو” إلا غرورا، فقد وعدكم بهزيمة “حماس” وإنهاء حكمها في “غزة”، فإذا بها أقوى من أي وقت مضى،
بل يصل تأثيرها لكافة مراكز القرار في العالم، ثم ها هي تختار “السنوار” على رأسها، بعد أن اختفت الفواصل والحواجز بين السياسي والمقاوم، وبين المدني والعسكري، في إطار مقاومة مجتمع صهيوني معسكر بطبيعته، وفي مواجهة “الولايات المتحدة” التي ظهر انحيازها أكثر من أي وقت مضي،
والمأزومة بفعل الانتخابات، والتي يبدو تحملها بقدر كبير من المشكلات غير الديمقراطية، والمرتبطة بنتائجها.
وبرغم أن اختيار “السنوار” يؤكد انتقال القيادة للداخل، وهو أمر طبيعي حيث إن غالبية الحركات المقاومة التي وقعت في جدلية الداخل والخارج حسمت الأمر لقيادة الداخل،
إلا أنه أيضا ينزع أهم أدوات الضغط على القيادة السياسية في الخارج، بل ويضعها في موقع أفضل، ويعطيها مساحة حركة ومناورة أكبر، وذلك مقارنة بما لو كانت القيادة العامة بيدها.
كما هي رسالة للمجتمع الصهيوني وللولايات المتحدة، بأن “السنوار” الذي خطط وقاد السابع من أكتوبر، ويقود الآن ملحمة المقاومة في غزة، لم يتراجع، بل يتقدم، بل أصبح منهجا حمساويا، وقيادة عامة لحماس وما تمتلكه من تأثير بين فضائل المقاومة الأخرى،
وهو ما يمكن النظر إليه على أنه رد فعل على تواطؤ الشريكين على حرب الإبادة، وتعويقهما الوصول لوقف حقيقي للحرب.
كما أن الشق السياسي من المشهد والمتعلق بالمفاوضات، التي صارت مفخخة بإطلاق الرهائن والهدنة وباليوم التالي للحرب وحل الدولتين، والذي يتصور البعض أن انتخاب السنوار قد تجنبها أو أهملها، يبدو في اللحظة الراهنة أنه شق لا محل له من الأعراب،
وأنه في أقصى درجات جدواه قد أصبح مجرد صيغة للتغطية واستنفاد للوقت، حتى يكمل “نتنياهو” مغامرات شقه العسكري والاستراتيجي، فضلا عن السياسي المرتبط بمصير حكومته، والذي تبدو آثاره واضحة بشكل كبير في التدمير الشامل لغزة، وحرب الإبادة التي يخوضها ضد المدنيين،
وهو ما أصبح موثقا بشكل غير مسبوق، على كافة الأصعدة.
وإذا كانت العديد من الرسائل قد انطلقت في اتجاه “أمريكا” و”إسرائيل”، فإن دول الإقليم قد تلقت هي الأخرى رسائل عديدة، وإن كانت متباينة الوجهة،
حسب موقع كل منها، فالمرتبطون بمحور التطبيع شعروا بالأزمة التي ورطهم فيها “نتنياهو”، والشعوب التي طالما عانت استبداد حكامها تشعر بنشوة.
ويبقى أن يكتمل مشهد الطوفان بوقف الحرب، وهو ما يحتاج من القوى الإقليمية الكبرى أن تنسق سياساتها، من خلال تكتل سياسي يهدف لمحاصرة الغطرسة الإسرائيلية،
التي تستهدف الجميع، وتضر بالجميع، ومن ثم إجبار الكيان الصهيوني على وضع سقف لحربه المفتوحة.
المصدر عربى 21