الموت في مصر.. بيزنس يرهق الأحياء ولا يرحم الأموات
في مصر اليوم، لم تعد معاناة المواطن تقتصر على قسوة الحياة وارتفاع تكاليف المعيشة فحسب، بل امتدت لتشمل حتى لحظات الفراق الأبدية.
في مشهد يثير الحزن والغضب على حد سواء، أصبح الموت عبئًا ماليًا ثقيلًا لا يُطاق، حيث لم تسلم حتى مقابر الموتى من طمع السوق وغلاء الأسعار، ليواجه الأحياء والأموات معًا مصيرًا مشتركًا من المعاناة والاستغلال.
شهدت مصر ارتفاعًا جنونيًا في أسعار المقابر والأكفان وتكاليف دفن الموتى، بشكل يعكس مدى الفجوة بين الفقراء والأغنياء ويثير تساؤلات حول أولوية الحكومة في معالجة الأزمات الاقتصادية.
لم يقتصر ارتفاع الأسعار على السلع والخدمات الأساسية فقط، بل امتد حتى إلى مراسم الموت، حيث بات الحصول على مكان لدفن الموتى تحديًا ماديًا يفوق قدرة الكثير من الأسر المصرية.
الأسعار وصلت إلى مستويات غير معقولة، إذ تجاوزت تكلفة الكفن الواحد حاجز الـ2000 جنيه، بينما أصبح سعر المتر في المقابر يتجاوز أسعار بعض الشقق السكنية. ولم تعد المقابر مجرد أماكن للراحة الأبدية،
بل باتت تصنَّف وفقًا لفئات “لوكس” و”سوبر لوكس”، مع خدمات إضافية مثل الإنترلوك والواي فاي، في مشهد يبرز كيف تحول الموت إلى “بيزنس” تستغله شركات وبعض الأفراد لتحقيق أرباح طائلة على حساب المواطنين.
في ظل الفقر والانهيار الاقتصادي، لم يتوقف جشع السوق عند هذا الحد، بل ظهرت شركات خاصة تقدم “باقات” للجنازات بأسعار تبدأ من 8 آلاف جنيه وتصل إلى 50 ألف جنيه،
وهو ما يمثل استغلالًا صارخًا لحالة الحزن التي يعيشها الناس. لقد أصبح الموت مكلفًا بشكل يفوق قدرة العديد من الأسر، مع تكاليف تصل إلى نصف مليون جنيه لجنازة واحدة تشمل جميع المراسم.
محمد ميزار، عامل بناء مقابر في الفيوم، كشف عن أن تكلفة بناء مقبرة واحدة تتراوح بين 5000 إلى 6000 جنيه، لكن مع تزايد الطلب ونقص المساحات، ارتفعت الأسعار بشكل كبير،
ليصل سعر القيراط من الأرض الزراعية إلى 250 ألف جنيه، ما يعني أن بناء مقبرة صغيرة بات يُكلِّف نحو 20 ألف جنيه. وفي أماكن أخرى مثل بني سويف وكفر الشيخ، ارتفعت أسعار الأراضي والمقابر بشكل غير مسبوق، مما جعل الحصول على مكان لدفن الموتى أمرًا صعبًا ومكلفًا.
ليس هذا فقط، بل انتشرت شركات وهمية تستغل المواطنين في بيع أراضٍ غير مرخصة لبناء المقابر، حيث يحذر الخبراء القانونيون مثل صلاح الطحاوي من التعامل مع هذه الشركات، مؤكدين أن أي عقد يتم مع هذه الشركات بدون تراخيص قانونية يعد باطلًا ومخالفًا للقانون.
ومن الجانب القانوني، يؤكد الدكتور صلاح فوزي استاذ القانون الدستوري في تصريحات صحفية أن أراضي الجبانات تعد من الأموال العامة التي يحق للمواطنين الانتفاع بها،
إلا أن الواقع يظهر أن هذا الحق قد تحول إلى سلعة تُباع بأثمان باهظة، مما يطرح تساؤلات حول دور الدولة في حماية حقوق المواطنين حتى في آخر مراحل حياتهم.
في النهاية، أصبح الموت في مصر ليس مجرد نهاية طبيعية للحياة، بل تجارة مربحة تستغل فيها آلام الناس ومعاناتهم، وهو ما يتطلب إعادة النظر في السياسات التي أدت إلى هذا الوضع المأساوي.