مقالات ورأى

أنور الهواري يكتب : حكومة القرآن

حسب المادة الأولى من الدستور الإيراني، فإن نظام الحكم الذي أعقب الثورة 1979 م، هو “حكومة القرآن العادلة الحقة” . 

وحسب المادة الثانية، فإن نظام الجمهورية الإسلامية يقوم على الإيمان، على ست ركائز للإيمان، الركيزة السادسة والأخيرة، هي الإيمان بكرامة الإنسان وقيمه الرفيعة،

وحريته الملازمة لمسئوليته أمام الله، هذه الركائز بترتيب ورودها في نص المادة الثانية من الدستور كالتالي: 

1- الإيمان بالله الأحد (لا إله إلا الله) وتفرده بالحاكمية والتشريع ولزوم التسليم لأمره.

2- الإيمان بالوحي الإلهي ودوره الأساس في تشريع القوانين

. 3- الإيمان بالمعاد (اليوم الآخر) ودوره الخلاق في مسيرة الإنسان التكاملية نحو الله.

4- الإيمان بعدل الله في الخلق والتشريع. الإيمان بالإمامة- يقصد الأئمة الاثني عشر من آل البيت-

5- والقيادة المستمرة في الثورة التي أحدثها الإسلام.

6- الإيمان بكرامة الإنسان وقيمه الرفيعة وحريته الملازمة لمسئوليته أمام الله. 

ثم تستكمل المادة ذاتها تعريف النظام السياسي للجمهورية الإسلامية فتقول: “وهو نظام يؤمن بالقسط والعدالة والاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتلاحم الوطني عن طريق: 

أ – الاجتهاد المستمر من قبل الفقهاء- من تتوفر فيهم شروط الاجتهاد- على أساس الكتاب (القرآن) وسنة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين (النبي ومن بعده الأئمة الاثني عشر).

ب – الاستفادة من العلوم والفنون والتجارب المتقدمة لدى البشرية. ج- محو الظلم والقهر ورفض الخضوع لهما.

وحسبما تنص المادة الثالثة، فإن تحقيق الركائز الستة المذكورة في المادة الثانية، يلزمه أن تلتزم حكومة جمهورية إيران الإسلامية، بأن توظف جميع إمكانياتها فيما يلي: 

  • 1 – خلق المناخ الملائم لتنمية مكارم الأخلاق على أساس الإيمان والتقوى، ومكافحة كل مظاهر الفساد والضياع.
  • 2- رفع مستوى الوعي العام.
  • 3- توفير التربية والتعليم والتربية البدنية مجاناً للجميع.
  •  4- تقوية روح البحث والإبداع.
  • 5- طرد الاستعمار كليةً ومكافحة النفوذ الأجنبي.
  • 6- تقوية بنية الدفاع الوطني بصورة كاملة عن طريق التدريب العسكري لجميع الأفراد.
  • 7- محو أي مظهر من مظاهر الاستبداد والديكتاتورية واحتكار السلطة.
  • 8- ضمان الحريات السياسية والاجتماعية في حدود القانون.
  • 9- إسهام عامة الناس في تقرير مصيرهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
  • 10- رفع التمييز غير العادل وإتاحة تكافؤ الفرص للجميع.
  • 11- وضع نظام إداري سليم.
  • 12- بناء اقتصاد سليم وعادل وفق القواعد الإسلامية.
  • 13- الاكتفاء الذاتي في العلوم والفنون والصناعة والزراعة.
  • 14- ضمان الحقوق الشاملة للجميع نساءً ورجالاً.
  • 15- تنظيم السياسة الخارجية على أساس المعايير الإسلامية، والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين والحماية الكاملة لمستضعفي العالم. 

هذه المواد الثلاث الافتتاحية في الدستور، تعني- في الواقع العملي- عدة أمور: أولها،

مصادرة الأهداف الكبرى التي ناضل لأجلها الشعب الإيراني في عهدي الدولتين القاجارية 1779- 1925، ثم الدولة البهلوية 1925- 1979 م

وهي الأهداف التي تتمثل في

  • :1- وضع القيود على سلطات الحكام المطلقة، إذ الحكم في فارس نموذج مثالي للطغيان والاستبداد الشرقي.
  • 2- الخروج بالمستوى الحضاري للبلاد من أنفاق العصور الوسيطة إلى آفاق العصر الحديث، بما يعنيه من حضارة أوروبية متفوقة على من سواها، بما في ذلك المسلمين في كل المجالات.
  • 3- وذلك يعني- بدوره- أمرين متناقضين: الأخذ عن أوروبا كل ما تفوقت علينا فيه من التعليم، حتى التطبيب، حتى التسليح، حتى تنظيم المجتمع، حتى الحريات والحقوق والواجبات العامة، ثم في الوقت ذاته الوقوف ضد أطماع أوروبا، وهيمنتها وتسللها؛ لنهب خيراتنا والتأثير على مصائرنا وتوجهاتنا.
  • 4- ثم تمتع الفرد، بما هو فرد، بحقوق المواطنة التي تكفل له الحصانة ضد الانتهاك والاستباحة والاستغلال من أي مصدر كان، وسواء كان هذا المصدر هو سلطة الحكام أو سلطة المجتمع والتقاليد أو سلطة الفقهاء باسم الدين.
  • 5- مثلما كان حكام إيران سباقون للأخذ عن أوروبا السلاح، وبعض أشكال التمدن، كانت الشعوب الإيرانية من أسبق شعوب الشرق في مضمار الثورة والحرية والعدل والكرامة والحقوق الفردية والجماعية.

مشكلة الشعب الإيراني لم تكن في الإيمان، إيمانه راسخ مستقر منذ الصدر الأول للإسلام، وعلى أساس هذا الإيمان، كانت شعوب فارس من أوفر شعوب الإسلام علماً وفناً وفقهاً، وأدباً وفكراً وفلسفةً وحضارة،

من البناة العظام لحضارة الإسلام والإنسانية، إيمانه لم تكن فيه مشكلة، وتمسكه بالقرآن لم يكن فيه تهاونا، مشكلته كانت في: طغيان الحكام، والهيمنة الأجنبية،

وفقدان العدل الاجتماعي، وهدر موارد البلاد، وانتهاك كرامة الإنسان. وبعد مصادرة الأهداف الكبرى التي ناضل لأجلها شعب إيران أكثر من قرنين متواصلين،

يأتي الهدف الأخطر هو- تحت بند حكومة القرآن الحقة العادلة، ثم تحت ركائز الإيمان الستة، تأتي مصادرة المستقبل ذاته، مصادرة المستقبل من خلال انتهاز اللحظة الثورية تحت زعامة رجل دين (الإمام الخميني) لتأسيس واقع سياسي دائم، تحتكر فيه السلطة طبقة الفقهاء، وهو تطور سياسي سلبي،

لم يحدث قبل ذلك أبدأً، بما في ذلك أشد عصور إيران أو الإسلام كله تخلفاً، كثيراً ما كان الحاكم فقيها، وربما فيلسوفاً، وربما شاعراً وربما متكلماً أو كل ذلك معاً، لكنه كان يزاول السلطة بصفته رجل حكم وسياسة وإدارة، سواء كان عادلاً أو ظالماً،

وسواء كان براً أو فاجراً، وسواء كان كفؤاً أو غير جدير بموقعه. أما تخصيص الحكم في الفقهاء، ثم إنابة الفقهاء عن الأئمة الاثني عشر، ثم عن حضرة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك ليس إلا تأسيس ديكتاتورية دينية محضة.

القرآن نزل هداية، احتكم إليه المؤمنون، وما يزالون يحتكمون إليه- بوعي وبغير وعي وبقصد وبحكم العادة- فهذا هو مقتضى الإيمان التلقائي، بدون تكلف ولا تصنع، ولا زعم ولا ادعاء، يطبق منه كل مؤمن،

ما استطاع وما فهم وما يطيق، وما هداه الله إليه، كان حضرة النبي صلى الله عليه وسلم بشراً رسولاً، يستشير المؤمنين في الأمور العامة، وينزل على مشورتهم، وهكذا كان الشيخان من بعده، لم يقل أبو بكر،

إن حكومته حكومة القرآن، وكذلك عمر بن الخطاب من بعده، بشر يحكمون بشراً، شريعتهم الدين الجديد، لكنها شريعة يفسرها بشر، ويطبقها بشر، يصيبون أو يخطئون، لهذا كان مؤرخو الإسلام يصفون دولة الإسلام الأولى، بأنها “دولة مضر”، ثم دولة أبي بكر، ثم دولة عمر وهكذا، يُنسب الدين لله الواحد الأحد،

وتُنسب الدولة للبشر على اختلاف نوازعهم وطبائعهم. كان الإسلام شريعة الدولة- قانون الدولة- ومثل كل شريعة وقانون، تتعدد الأفهام وتتنوع الاجتهادات وتختلف التفسيرات، ولا سلطة لأحد منها على غيرها إلا بمقدار ما فيه من حكمة وعقل ورشد، في تحري القصد والوصول إلى المراد، لهذا تعددت دول المسلمين، وبقوا مع ذلك مسلمين،

كما تعددت مذاهبهم وبقوا رغم ذلك مسلمين، تمددت مظلة الإسلام، واتسعت مع تمدد وتوسع وتنوع أفكار المسلمين، ويوم توقف المظلة عن التمدد والاتساع، تقلصت الأفكار وساد التقليد وحل الجمود.

عندما يصف نظام حكم، أن حكومته هي حكومة القرآن العادلة الحقة، وعندما يصف أهدافه بأنها حماية ركائز الإيمان، فإنه يواجه معارضيه ومنافسيه وخصومه بأبشع أشكال القمع، قمع الروح والفكر والضمير، معنا أنت مؤمن، علينا أنت خرجت من الإيمان، القهر الخام.

لهذا كان الإمام عليً بن أبي طالب كرم الله وجهه- الذي هو أول الأئمة الاثني عشر- شجاعاً في الرأي والسياسة، كما هو شجاع في القتال والحرب، عندما ظهرت لأول مرة في تاريخ الإسلام شعارات حكومة القرآن والحكم لله،

والحاكمية لله وأمثالها، مما كان وما زال وقودا شعاراتياً ايديولوجياً، يتستر وراء الدين في معترك الصراعات السياسية. وقع الإمام بين نوعين من المزايدات باسم الدين في خلاف سياسي محض،

ففي موقعة صفين 37 هجرية 657 ميلادية، زايد طرفان بالشعارات الدينية لأول مرة: رفع أنصار معاوية المصاحف، ورفع بعض من أنصار عليً- الخوارج فيما بعد- شعار لا حكم لله. 

وكانت، ومازالت حكمة الإمام عليً كرم الله وجهه مختصرة في كلمات معدودات: القرآن حمًالُ أوجه أي، يمكن لكل فريق أن يذهب في تفسيره، إلى حيث يريد؛ فكان ينهى عن مفاوضة الخصوم بالقرآن.

ثم قولته: كلمة حق يراد بها باطل؛ رداً على شعار لا حكم إلا لله، فحكم الله لا يتنزل من تلقاء نفسه، إنما من مجهود بشر يخطئون ويصيبون.

تحت حكومة القرآن وحراسة الإيمان، تأسست واحدة من أعتى الديكتاتوريات الشرق الأوسط الحديث، ديكتاتورية الفقهاء النواب عن الإمام الغائب، ديكتاتورية تقوم على مؤسسات مثل: مجلس صيانة الدستور المادة الرابعة من الدستور،

الفقيه العادل المادة الخامسة من الدستور، وظائف القائد الأعلى الفقيه العادل وصلاحياته المادة 110 من الدستور، مجلس الخبراء مادة 108 من الدستور، مجلس تشخيص مصلحة النظام المادة 112 من الدستور. 

المصدر مصر 360

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى