بقلم حفيدته ريم منصور سلطان باشا الأطرش …
كان بين سلطان الأطرش والفرنسيين نزاع دائم منذ عام 1920 ووصوله مع رفاقه الخيّالة إلى قرية براق لنجدة يوسف العظمة في ميسلون. فلم يترك فرصة إلا وأعرب فيها عن عدم رضاه عن وجودهم في وطنه. وهو الذي رفض تقسيم سوريا إلى دويلات مسخ، ورفض إغراءات المحتلّ الفرنسي
الذي عرض عليه رئاسة دويلة جبل الدروز! لذلك، حين أعلن بيانه الشهير “إلى السلاح” بعد معركة المزرعة، في آب 1925، قال فيه إنّ الهدف الأول لثورة عام 1925 هو توحيد سوريا ساحلاً وداخلاً، أي عودة سوريا الطبيعية إلى الحياة كما كانت، والهدف الثاني هو الاستقلال.
وكانت أول سانحة له انتفاضته الأولى على المستعمر الفرنسي، في تموز 1922، من أجل المجاهد أدهم خنجر الذي وصل إلى ساحة القريّا، بلدة سلطان الأطرش، مستجيراً، وسلطان خارجها، إذ كان في بلدة أمّ الرمّان، جنوب القريّا.
ولم يستطع حينها الوصول إلى بيت سلطان، إذ تمّ القبض عليه في الساحة! ولو أن أدهم خنجر استطاع الوصول إلى بيت سلطان، لما تجرّأ المحتلّ على اعتقاله!
سلطان بعد علمه بالحدث وعودته إلى بلدته، شقيقه علي إلى السويداء لمقابلة الضابط الفرنسي ترنكا، لإطلاق سراح أدهم خنجر! لكنّ ترنكا قال لعلي الأطرش بسخرية، إنه في قلعة السويداء، فليذهب سلطان ليأخذه!
حين لم يُستَجب طلبه، خرج سلطان ورجاله لإطلاق سراح أدهم خنجر، فهاجم مع رفاقه الخيّالة الفرنسيين بالسلاح، وكانت معركة “تل الحديد” ضد المصفّحات الفرنسية التي ولّت الأدبار أمام فرسانه، فعطّلوا اثنتين، وقُتِلَ فيها الضابط بوكسان وثلاثة جنود آخرين، وأُسِرَ أربعة. وحاصروا السويداء والقلعة!
وصل وفد المجلس المحلّي إلى تل الحديد، وسيطاً ومُرسَلاً من الفرنسيين، حاملاً وعداً “بشرف الأمة الفرنسية” بتسليم سلطان أدهم خنجر، شرط فكّ الحصار الذي ضربه الثوار على السويداء وقلعتها وتسليم الجنود الأربعة الأسرى!
يقول سلطان الأطرش، بما معناه، “صدّقنا الوعد واعتقدنا أنّ الفرنسيين يحترمون شرف أمتهم، فسلّمنا للوفد الأسرى ورفعنا الحصار، بانتظار تنفيذ الوعد، لكنها كانت خديعة”!
واكتشف الخديعة في أثناء عودته ورفاقه إلى بلدته، فبدأ الطيران بقصفهم لقتلهم، ثمّ دمّر بيته في القريّا!
كانت هذه انتفاضته الأولى التي دامت تسعة أشهر خلال عام 1922 وذلك رفضاً للاستعمار وتكريساً لتقاليد العرب الأصيلة في حماية الدخيل وصيانة الضيف. فحكم عليه الفرنسيون بالإعدام. فلجأ إلى الأردن. ولما عجز الفرنسيون عن القبض عليه، أصدروا عفواً عنه وعن جماعته. فعاد إلى السويداء في 5 نيسان 1923، واستُقبِلَ استقبالاً شعبياً كبيراً في غمرة زغردة النساء.
إثر عودة سلطان الأطرش من الأردن، قدّم له الضابط الفرنسي كاترو مبلغ ألف ليرة ذهبية تعويضاً عن هدم داره، لكنه رفضها رفضاً قاطعاً.
وحين سُئِلَ عن إعادة إعمار بيته، قال لسائليه: “إن الدار التي لم تستطع حماية أدهم خنجر لا تستحقّ أن يُعاد بناؤها”.
وبالفعل، ترك ركام البيت على حاله، في غرب بلدته القريّا، ثم بعد فترة، بنى له بيتاً في شرق القريّا!
بقي سلطان حتى آخر يوم من حياته متحسِّراً على تمكِّن الفرنسيين من خداعه، وتالياً على عدم تمكّنه من إنقاذ الشهيد أدهم خنجر. لكنه تعلّم ألا يثق “بشرف الأمة الفرنسية”، لذلك، بعد انتصار الثوار في معركة المزرعة في 2 و 3 آب 1925، وضع شرطاً واضحاً بإطلاق المعتقلين والمنفيين من شباب الجبل مقابل تسليم الأسرى الفرنسيين!
لم يتنازل سلطان الأطرش عن أي مطلب من مطالبه وهي إعادة توحيد سوريا الطبيعية واستقلالها الناجز. واستمرّ بدعم قضايا العرب الكبرى بعد الاستقلال وعلى رأسها قضية فلسطين والقدس والجولان وكلّ الأراضي العربية المغتصبة.
أثارت أخبار معركة تل الحديد لتحرير أدهم خنجر من الأسر لدى الفرنسيين في قلعة السويداء في عام 1922 المشاعر الوطنية الصادقة في نفوس المغتربين، فنظم الشاعر القروي، رشيد سليم الخوري في البرازيل قصيدة رائعة بهذه المناسبة بعنوان “سلطان باشا الأطرش والتنك” (المصفّحة)، صوّر فيها حادثة الهجوم الصاعق على المصفّحات:
خففتَ لنجدة العاني سريعاً
غضوباً لو رآكَ الليث ريعا
وحولك من بني معروف جمع
بهم وبدونهم تغني الجموعا
وثبتَ إلى سنام (التنك) وثباً
عجيباً علّم النسر الوقوعا
فخرّ الجند فوق (التنك) صرعى
وخرّ (التنك) تحتهم صريعا
فيا لكَ غارة لو لم تُذِعْها
أعادينا لكذّبنا المذيعا
ويا لكَ أطرشاً لما دعينا
لثأر كنتَ أسمَعَنا جميعا
رحم الله سلطان الأطرش ورفاقه الذين جاهدوا في الثورة السورية الكبرى خلال اثني عشر عاماً، من عام 1925 ( المعارك العسكرية الأساسية) إلى عام 1937 (حرب العصابات والمنفى) والمقاومة التي تمثّلت برفض تسليم السلاح وبالاستمرار في درب النضال حتى تحقيق الاستقلال.
لقد حلموا بوطن مستقلّ عزيز. نتمنى أن نكون اليوم على مستوى حلمهم، فننجز جلاء قادماً يمحو الاحتلالات المستجدّة التي غزتنا، كفيروسات المخرّبين والغرباء والجهل والفساد!
لقد أوصى سلطان على مدى حياته وبعد رحيله، في وصيّته السياسية، بالحفاظ على استقلال البلد الذي سالت في سبيله دماء طاهرة!
إنّ الأمم المتحضِّرة، التي تحترم تاريخها، تستعيده بفخر وصدق، لا بتلفيقه وتزويره في مقابلة تلفزيونية من بعض ضيوف بعض الإعلام،
ظنّاً منهم أنهم يفيدون أنفسهم! تذكّر تاريخنا هو لاسترجاع صورة أمتنا الحيّة وذاكرتها التي حقّقت النصر على الاستعمار، فنالت استقلالها بدماء أبنائها وتضحياتهم، وبتضحيات قادتها، الذين استشرفوا قبل غيرهم ما يجب أن يكون عليه مستقبل أمتهم، فقادوا حركات التحرّر، فباتوا رموزاً وطنية وقدوة تُحتَذى.
لذلك، فمهما شوّه بعض الإعلام التلفزيوني وضيوفه ذكر القائد العام للثورة السورية الكبرى، فحضوره في الذاكرة الجمعية السورية، بل العربية، وفي ضمير أبناء العروبة، لا يزال متوهّجاً، وسيبقى كذلك إلى الأبد!
سلطان الأطرش… رحمك الله قائداً مخلصاً ذا رؤية ثاقبة للمستقبل.
رحمك الله يا جدّي ورحم رفاقك المخلصين ورحم شهداء ثورة الاستقلال وشهداء أمتنا العربية!