سمعت بعض المسئولين من حكومات أطاحت بها انتفاضات شعبية عربية، وأخرى لم تطح بها بعد، وهم يكادون يندمون على اليوم الذي وفروا فيه “التعليم” و”الإنترنت” للشباب: لأن هذا الجيل الذي وفرنا له هذه الخدمات،
واستفاد منها، هو ذاته الذي نزل الشوارع والميادين، يطالب بالإطاحة بنا، كما لو كان يعاقبنا على ذلك!!
هذا جانب من الحقائق، والمتابع لأزمات العالم السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والأمنية الكثيرة والمتلاحقة لن يحتاج إلى كثير جهد ليكتشف أن العالم مقبل على مراحل سيولة واضطراب كبيرة،
وأنها لن تدع جزءا من العالم محصنا، بما في ذلك الدول الغنية والمتقدمة، التي باتت تعاني من مشكلات من نوع آخر، ربما أخطرها هو تنامي العنصرية وتأثيراتها الكثيرة، فضلا عن أوجهها السياسية العديدة.
كما لا يخفى أن التحولات والاجتماعية والاقتصادية في بلدان العالم الثالث، التي أصبحت من علاماتها المميزة، لا يمكنها أن تمر دون أن تثير حفيظة الشباب، الذين أصبحوا أكثر من يعاني من هذه التحولات، قسرية كانت أو طوعية.
ولن تحتاج للكثير من الجهد لتبين أن الأجيال الشابة هي المحرك الرئيس للمجتمعات، ومن ثمّ الثورات، وأن الأسباب الرئيسة لهذه الثورات ترجع إما إلى الظلم الاجتماعي، أو القهر السياسي،
أو لعدم تلبية طموحات الأجيال الصاعدة في حياة مختلفة، لو توفر العدل الاجتماعي وشروط الحياة السياسية النظيفة.
والحقيقة التي يمكن رصدها بكل شفافية، أن الحكام من الجيل الأكبر، وربما الأقدم، لا زالت تصوراتهم عن الحكم، وعن مقتضيات استقرار الدولة، وتنميتها،
مرتبطة بعصر مضى وولّى منذ بداية القرن، وإن كان لازال يكافح من يومها لكي يطبع القرن الجديد بذات السمات السابقة للحكم!
وهكذا ظهر الشباب الثائرون بعد أن قامت هذه الحكومات بتوفير ظروف أفضل للحياة، وخاصة في مجالي “التعليم” و”الإنترنت”، وهم يتصدرون صفوف الثورات، معلنين رفضهم لاستمرار ذات النمط من الحكم والحكومات، وأن هذا ليس كافيا، فالأمر أعقد وأبعد من ذلك بكثير.
من الطبيعي والمنطق السياسي أن تجد بعض هذه الحكومات تلعن اليوم الذي وفرت فيه الإنترنت والتعليم لهذا الجيل “ناكر الجميل”! وبعضها تمنى أن لو ظل هذا الجيل تضربه الأمية والحرمان من الإنترنت على أن يقف في وجه حكامه يجابههم بهذا الشكل! وبما يفضي غالبا إلى الفوضى أو عودة النظام القديم بشكل أكثر شراسة.
كنت أتمنى على هذه الحكومات أن تكون أكثر منطقية، وأن تسأل نفسها: لماذا لم يقنع الشباب بهذه الخدمات؟! ولماذا لم تقف الطموحات عند “التعليم” و”الإنترنت”؟! ولماذا لم تدفعهم هذه الخدمات المتوفرة لأن يدينوا بالولاء لحكوماتهم؟! فالشباب الذين قرروا أن يغيروا معادلات الحكم في بلادهم،
لا بد أنه تحركهم دوافع أكبر، وأسباب أكثر، غالبيتها مرتبط بطبيعة تكوين الشباب المتطلع للتغيير، وبعضها مرتبط بظروفهم ومشكلاتهم، وطموحاتهم المرتبطة بتجدد أنماط الحياة وأشكال الحضارة.
كنت أتمنى على هؤلاء الحكام، قبل أن ينكروا على الشباب تمردهم، أن يبحثوا هم في تطلعاتهم وطموحاتهم المتجددة، وأن يعملوا على توفيرها، وليس الالتفاف عليها أو قمعها، فالتطور سنة الله في خلقه،
والشباب هم دليل المستقبل، والحكومات الذكية هي التي تخطط لاستيعاب المستقبل، والتجهز لكل احتمالاته، التي في غالبها تتعلق بالشباب، الذين يجب أن تعمل الحكومات على حل مشكلاتهم، بل وتهتدى بطموحاتهم.
والحقيقة أن مجمل الأسباب التي جعلت الشباب يرفضون حكوماته، ويتحينون الفرصة للتمرد عليها، يمكن أن نرصدها كالتالي:
أولا.. لأن هذه الحكومات تدور بين كونها حكومات مستبدة تنتهك حقوق الإنسان، ولا تعير تطلعات الشباب السياسية اهتماما، أو ربما تقمعهم وتبعدهم عن كل ما يتعلق بالسياسة، سوى التسبيح بحمد الحكام الذي أدمنوه.
ثانيا.. لأن هذه الحكومات غالبا ما تعمل على تهميش بعض الفئات اجتماعيا، وربما كانت تمثل غالبية المجتمع، لصالح فئات الموالاة، وفي هذا المجال يستهدف أيضا الشباب تخوفا من طموحاتهم السياسية،
حيث يجرى استبعادهم أو عدم تمكينهم بقدر يوازي كفاءاتهم أو وزنهم الاجتماعي، أو بما يلبي طموحاتهم المتجددة.
ثالثا.. عدم احترام الأجيال الشبابية المتدفقة، وعدم إعادة صيغ الحياة الاجتماعية والسياسية، بل والاقتصادية بما يوازي رؤيتهم وتطلعاتهم، وبالأخص عن طريق تمثيلهم في الحكم.
رابعا.. امتهان كرامة الشباب، أو عدم تقديرهم بالشكل اللائق، في ظل ثورة الحريات في الغرب، برغم اختلاف الثقافات، والتي أصبحت أحد أسباب ثورة الشباب لدينا، حيث أصبحت السوشيال ميديا هي مصدر المعلومات الرئيس، وخاصة بالنسبة للعالم من حولنا.
خامسا.. ولأن السوشيال ميديا أصبحت هي مصدر المعلومات الرئيس للشباب، فقد فقدت الحكومات قدرا كبيرا من قدرتها على تنميط وعيهم والسيطرة على تطلعاتهم، أو تدجينها، أو تطويعها،
فقد أصبح إعلام الشعوب أكثر قدرة على ذلك، وفقد الإعلام الرسمي سطوته القديمة، وخاصة أنه في الغالب أصبح مبتذلا، أو موجها بشكل فج وغير منطقي، يفتقر إلى قدر كبير من الذكاء، ولا سيما في التعامل مع الشباب، الذين يتميزون بحساسية خاصة تجاه السلطات.
سادسا.. كما أن ما آلت إليه قواعد ومفاهيم الاستقرار السياسي -ولا سيما ما يتعلق منها بميراث القرن العشرين- قد كرست معادلات وآليات للحكم، تعتمد على قد كبير من التمييز لفتة أو طائفة أو عرق،
وهي وإن قبلت بها الأجيال السابقة، فلم يعد الشباب يقبلونها، بل يعتبرونها من أسباب ثورتهم، التي تهتم أكثر ما تهتم بالكرامة الإنسانية، والمساواة، وعدم التمييز.. فضلا عن عدم إدراك الحكام أن مفهوم السلطة الأبدية قد سقط، وأن التوريث لم يعد له مكان، مع تجدد أساليب الحكم وثورة التطلعات.
سابعا.. استنكار الشباب لتمسك الحكومات بأيديولوجيات الحكم المستوردة، في الوقت الذي فشلت في التفاعل مع مشكلات مجتمعاتنا، ولم تقدم أو تسهم ولو بقدر يسير من الحلول للمشكلات المتجذرة أو المتجددة.
ثامنا.. لم يدرك بعض الحكام أن الإذعان والخضوع للأجنبي هو أهم مصادر غضب الشعوب، وخاصة شبابها، فأفرطوا في الخضوع للأجنبي، بما يهيل التراب على تاريخ بلادنا، وكرامتها وعزتها القومية.
تاسعا.. لقد كان انكشاف النظم الحاكمة في بلادنا أمام المشروع الصهيوني، هو من أهم أسباب سقوط شرعيتها، ففي الوقت الذي ترى شعوبنا أن شرعية الحكم في بلادنا، مرتبطة بالقدرة على تحدي المشروع الصهيوني،
إذا بالحكام يسارعون في العمل لخدمته، وكأنهم موظفون لديه، وفي الوقت الذي سبقتهم الدولة الوليدة المغتصبة، في كل مجالات التقدم والتكنولوجيا، فضلا عن القوة العسكرية، إذا بهم يفشلون في كل المجالات، بما في ذلك توفير أساسيات الحياة الكريمة ولقمة العيش!
عاشرا.. تقنيات العصر أصبحت تتيح للتغيير وسائل وآليات أهم بكثير من كل ما أتيح في الماضي، ولا سيما في مجالات ثورة الاتصالات والمعلومات، التي يمكنها أن تجعل الشعوب وإعلام الشعوب،
في موقع أفضل من الحكومات ومن الاعلام الرسمي.. كما أن تقنيات الثورات السلمية صارت متاحة، فضلا عن أنها أكثر فاعلية وسهولة من غيرها وهو ما يشجع الشباب على التغيير دون خسائر كبيرة.