نشر موقع “الجزيرة نت” مقالًا للدكتور عبدالله معروف، كاتب فلسطيني، بعنوان “كيف يمكن قراءة نوايا نتنياهو؟”،
حيث يتناول فيه التحولات السياسية والأصوات المتزايدة حول السياسات التي ينتهجها رئيس الوزراء الإسرائيلي.
يسلط المقال الضوء على التداعيات المحتملة لتوجهاته على الصعيدين المحلي والدولي.
وفي خطوة لتعزيز الحوار والنقاش حول القضايا المرتبطة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يعيد موقع “أخبار الغد” نشر المقال، مما يوفر للقراء فرصة لفهم أعمق للخلفيات السياسية التي تؤثر على المنطقة، وتنضوي تحتها مجموعة من الرؤى المختلفة.
عندما أقدمت إسرائيل على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، بعد يوم واحد فقط من اغتيال المسؤول البارز في حزب الله فؤاد شُكر، قرأت لبعض المحللين في مواقع إخبارية ولمعلّقين على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يفيد بأن الهدف من هذه العملية هو توفير الفرصة لنتنياهو للنزول من الشجرة وإعلان “الانتصار” في الحرب وإنهائها للخروج من مستنقع غزة الذي تورّط فيه.
وللحقّ فقد استغربت هذا الطرح، فعمليتا اغتيال شُكر، ثم هنية تشيران بوضوح إلى العكس تمامًا، أي أن نتنياهو لا ينوي وقف الحرب بل توسعة رقعتها، وجعلها حربًا مفتوحة بالكامل. وهناك عدّة شواهد تبين ذلك، إضافةً إلى عدة أسباب يمكن استنتاجها عند تحليل سلوكه.
يجب أن نكون في غاية الصراحة مع أنفسنا في هذا الوقت الحرج، فالأخبار التي تتابع تطوّرات العمل على الوصول إلى صفقة لإنهاء الحرب مقابل تبادل الأسرى، إنما تتابع سرابًا لا حقيقة له، إذ لا نيّة لدى بنيامين نتنياهو للوصول إلى صفقة على الإطلاق، بل إن هدفه هو توسيع رقعة الحرب لتصبح حربًا إقليمية مفتوحة.
هذه حقيقة واضحة كالشمس، لا يريد كثير من أبناء أمتنا الاعتراف بها، ويصرون بدلًا من ذلك على التمسك بأملِ نجاح ضغوط القوى الكبرى عليه لإنجاز الصفقة، أو أن يرضخ لضغوط الداخل الرافض لتوسيع الحرب والمطالب بصفقة تبادل في أسرع وقت، بينما الشواهد على رغبة نتنياهو بالهروب إلى الأمام عبر توسيع نطاق الحرب، صارت أكثر من أن تعدّ أو تحصى.
ولعل أحدثها ردّه على البيان الثلاثي القطري – المصري – الأميركي حول استئناف المفاوضات لوقف الحرب، عبر ارتكاب مجزرة مدرسة “التابعين” في حي الدرج بغزة التي راح ضحيتها أكثر من مائة مدنيّ، أثناء أداء صلاة الفجر. أصبح نمط سلوك نتنياهو واضحًا، إذ كلما عاد الحديث في أروقة السياسة عن وقف الحرب أو بدء المفاوضات، لجأ لمزيد من قتل المدنيين وبطرق أشد بشاعةً كل مرة.
الحقيقة التي ينبغي أن ننطلق منها اليوم في التعامل مع شخصية بنيامين نتنياهو باختصار هي أنه يريد الحرب ولا شيء غيرها، وهو لا يشعر بأي ضغط داخلي حقيقي في هذا السياق، لأن أعداءه اليوم وإن كانوا أكثر عددًا، إلا أنهم ليسوا من ذلك النوع الذي يحوّل معارضته إلى اشتباك حقيقي في الشارع، وهو ما يجعلهم أضعف نسبيًا من اليمين الداعم لنتنياهو المستعدّ لإحراق الأرض حقيقةً لا مجازًا في سبيل تنفيذ أجندته.
أما على مستوى الولايات المتحدة الأميركية، فإن إدارة بايدن بعد إعلان انسحابه من السباق الانتخابي أصبحت أضعف تأثيرًا في قرارات نتنياهو من أي وقت مضى، فأيام بايدن في الرئاسة معدودة، والخيارات مفتوحة ناحية اختيار الرئيس القادم، سواء كان ترامب، المرشح المفضل لنتنياهو، أو كامالا هاريس التي لا يفضلها.
إن توجيه هذه الضربة لإيران – قبل أن تكون لحماس – باغتيال مسؤول بحجم إسماعيل هنية على أرضها وخلال مناسبة تقلد رئيسها الجديد مهام منصبه، لا يمكن وضعها في خانة تبريد جبهة غزة أو البحث عن انتصار موهوم يمكن من خلاله إعلان وقف إطلاق النار، وذلك ببساطة، لأن حجم وطريقة الضربة صمّما بطريقة لا يمكن أن تتحملها إيران، إلا لو أرادت أن تظهر بصورة المستسلم لإسرائيل.
وبالتالي فإنها لا بدّ أن تستدعي ردًا إيرانيًا حتى لو لم يكن ذلك هو تفضيلها، بمعنى أن نتنياهو ألجأ إيران للرد بطريقة قوية مؤذية لإسرائيل، بما سيمنحه تاليًا الفرصة للرد على الرد، وهو ما يمكن أن يدحرج الأمور نحو مسار تصاعديّ سريع.
الأمر ذاته يمكن قوله عن الضربة التي وُجّهت إلى حزب الله باغتيال شخصية وازنة فيه، إذ تدفعه إلى ترك حالة الإسناد العسكري، وتوجب عليه دخول المعركة بشكل أو بآخر وعلى نطاق واسع. وهو ما أشار له الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في خطابه بعد حادثة الاغتيال.
لا أقصد هنا القول إن نتنياهو نصب شركًا لإيران وحزب الله بالضرورة، لكن أقول إنه قرر أن يذهب إلى أبعد حد في هذه الحرب، ووضع إيران وحزب الله في موقع لا يمكنهما معه إلا الرد، وهو يراهن على أن تتمكن إسرائيل من تحمل هذا الرد، ثم الرد عليه مجددًا، في سيناريو متناسب مع نيته لتوسيع المعركة مع البقاء متحكمًا بها.
والحقيقة أن كلمة السر وراء ذلك التوجه، هي الانتخابات الرئاسية الأميركية؛ فنتنياهو بدأ هذه التحركات المجنونة بمجرد عودته من الولايات المتحدة، وبعد لقاءات متعددة كان آخرَها وأبرزَها لقاؤُه المطول مع مرشحه المفضل دونالد ترامب.
ولا أستبعد أنّ نتنياهو يريد تحقيق هذا التوسيع المتحكّم فيه حتى نوفمبر/تشرين الثاني القادم، ليجرّ إدارة بايدن – رغمًا عنها – لمواجهة مع إيران. ويشهد لذلك نشر الولايات المتحدة قطعًا حربية في البحرين: الأحمر والمتوسط، وإعلان أنها ستدافع عن إسرائيل ضد أي رد إيراني على اغتيال هنية.
وطبقًا لهذا التصور، فإن توريط الإدارة الأميركية الحالية في هذه الحرب على أي صعيد مهما كان صغيرًا يمكن أن يضعفها ويزيد فرص تفوق ترامب في الانتخابات القادمة، وفي حال فوز ترامب فإنه سيكمل الخطة وربما يحقق حلم نتنياهو القديم بضرب إيران نفسها، أو دخول الولايات المتحدة معها في مواجهة مباشرة لا يوجد فيها منتصر أكبر من إسرائيل.
ويبدو أن إدارة بايدن فهمت هذا التوجه، ولذلك لجأت إلى محاولة تبريد الجبهات، وتخفيف الرد الإيراني بأي شكل من الأشكال، مع عدم الإضرار بصورتها باعتبارها الحامي والحليف الأقوى لإسرائيل.
أما إن افترضنا انتصار كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية، فإن هذا يعني أن سياسة إدارة بايدن الحالية ستستمر على غير هوى نتنياهو، ولكن انتصار هاريس في نوفمبر/تشرين الثاني، سيمنح نتنياهو مساحةً زمنيةً كي يخرج من ورطته خلال شهرين كاملين بين الانتخابات الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني، وتسلم الرئيس الجديد منصبه في يناير/كانون الثاني من العام القادم. أي أن نتنياهو هو الكاسب في الحالتين، بالرغم من خطورة مغامرته واحتمال انقلاب نتائجها عليه، وإن كان فوز ترامب سيعني له الكثير.
بالإضافة إلى ذلك، فإن سعي نتنياهو لاستبدال قيادة الجيش وقيادة جهاز الشاباك بالذات، بقيادة قريبة منه، يؤكد ما ذهبنا إليه حول رغبته في توسيع الصراع وفتحه على مصراعيه لا تبريده، فجهاز الشاباك كان دائمًا الأكثر عقلانية وذكاءً إستراتيجيًا في التعامل مع الواقع في الداخل الفلسطيني، سواء في القدس أو داخل الخط الأخضر أو حتى الضفة الغربية.
وهو الذي لجم نتنياهو في أكثر من مناسبة حتى لا تنحدر الأوضاع في الأراضي الفلسطينية إلى انفجار انتفاضة ثالثة كما جرى عام 2017، في هبّة باب الأسباط في القدس، وبالتالي فإن تحييد هذا الجهاز يفتح المجال لنتنياهو كي يتحرك بحرية أكبر.
بموجب ذلك، فإن علينا أن نتوقع أن يسعى أنصار وحلفاء نتنياهو لتسخين جبهة القدس والضفة الغربية، رغم خطورة ذلك، خاصةً أننا نتحضر لموسم عنيف عادةً في القدس بحلول ما يسمى “ذكرى خراب المعبد” في الثالث عشر من أغسطس/آب الجاري، والذي يأتي هذا العام في ذروة قرع طبول الحرب في المنطقة.
استعدادًا لهذه المناسبة، يتحضّر تيار الصهيونية الدينية وجماعاته المتطرفة لمسيرات عارمة حول أسوار القدس وداخل المسجد الأقصى المبارك. فإذا تمكّنت هذه الجماعات من بلبلة المنطقة الحساسة بشكل لا يخرج الأمور عن السيطرة الإسرائيلية، فسيتيح ذلك لنتنياهو توسيع نطاق الصدام، وحصد مزيد من الدعم بين أقطاب اليمين المتطرف، مما يعزز مكانته في مواجهة أعدائه في الداخل.
هذه المعطيات كلها تشير – بما لا شك فيه – إلى أن نتنياهو لا يريد وقف هذه الحرب، بل يريد توسيعها وتوريط الولايات المتحدة معه بشكل مباشر. وقد يظن بعض المحللين الذين يطالبون بتجاهل هذه التصعيدات الإسرائيلية أن مواجهة هذا التوجه يجب أن تكون بتجاهل استفزازات نتنياهو أو “عدم الانجرار” للرد عليه بما يتناسب مع حجم الاعتداءات التي ينفذها عن سبق إصرار.
ولكن هذا التوجّه في الحقيقة ليس واقعيًا ولا سليمًا؛ لأنّه يغري نتنياهو بالمزيد من الضغط والتحرك السريع للأمام لقلب المعادلات في المنطقة، والتوجه نحو حسم معادلة الردع لصالح إسرائيل.
وهذا يوصلنا إلى نتيجة منطقية واحدة: أنه لا يوجد لنتنياهو إلا حل واحد، وهو إجباره على وقف الحرب من خلال التطورات على الأرض، سواء على جبهة غزة أو جبهة القدس والضفة الغربية والداخل، أو الجبهة الشمالية، وليس عبر التعويل على الضغط الدبلوماسي من أي جهة كانت.