مقالات ورأى

حسين عمار يكتب: مصر التي في خاطري وخواطر أهلها

بقلم: حسين عمار

محامي وحقوقي

معلش همشي والفراق محتوم يابلدي، لأجل أبويا لأجل أمي لأجل اللي همه فرقبتي، لأجل ولدي ما يتستر, ولا اسيبش نفسي تقولي ياله انتحر. مش مهم إني انتهي مش مهم إني بفراقك اتقهر! تلك هى حالهم فلا حكومة نصفتهم ولا شركات بيع الوهم جبرت خواطرهم.

لا تكاد تمر علينا بضعة شهور إلا بمعاناة جديدة لا يختلف فيها إلا أسماء الحالمين بالحياة وأعمارهم من ضحايا تجار البشر مسوقي السراب في نفوس من لا حيلة لهم ولا طاقة لتحمل مزيد من الضغوط المادية المركبة في بلدنا مصر في ظل انشغال السلطات بالتسويق لمصر الجديدة المتطورة إعلاميا!

بعد فترة وجيزة من التعافي من الآثار النفسية الصعبة التي عانيت منها جراء متابعة ملف هجرة غير شرعية لأكثر من 20 طفل مصري تتراوح أعمارهم من 14 إلى 17 عاما سلمتهم أسرهم بطيب خاطر إلى المخاطر قاصدين أوروبا حيث الحياة الكريمة والدخل العادل المحرومين منه طيلة حياتهم في موطن الخيرات, أبصرت عند دخولي أحد المقاهي في منطقة باشاك شهير بإسطنبول وجها مصريا خالصا بدا عليه الإرهاق والهم وسجدا ضعيف أنهكه الفكر والفقر.

اندهشت لوجوده في هذه المنطقة لثواني كونها خارج النطاق الجغرافي الذي يتردد عليه الكادحين من المصريين القادمين إلى تركيا بحثا عن لقمة العيش وفي مقدمة تلك المناطق شيرين افلار – أطلق عليها شبين افلار لكثافة الوجود المصري فيها – ولكنني سرعان ما فسرت تواجده بأنه ربما التحق بعمل جديد في المنطقة أو أنه في زيارة لصديق له يعمل في المنطقة.

لم يمر وقت طويل على جلوسي في المقهى حتى صاح بصوته صراخا يتجاوز في قوته جسده الضعيف وبشكل مخيف لكل من حوله متحدثا مع أحدهم هاتفيا وصب عليه كل أصناف السباب المصري صبا وفهمت من حديثه أنه يتحدث مع السمسار الذي جاء به إلى تركيا ويحمله مسؤولية هذا الموقف وأنه لن يتركه حتى أخر عمره إذا لم يوفر له عمل وسكن مناسبين.

ووجدتني وسط هذه الوصلة من السباب أتوجه إليه بإشارة من اليد أدعوه فيها بالهدوء والاستعانة بالله فاستجاب نسبيا بخفض الصوت وبعد انتهاء المكالمة انتقلت إلى جواره للتخفيف عليه ومساعدته إذا كان في مقدوري. تعرفنا سريعا وبدأ يقص على جانب من معاناته.

الرجل البورسعيدي الذي يبلغ من العمر 57 عاما رب أسرة يسعى على رزق أفرادها بتجرد. جاء بوعود العمل المناسب والسكن الإنساني ولكنه وجد واقعا لا يمت للإنسانية في شيء وجد نفسه في مصنع بعيد عن العمران لا تتوقف فيه الأتربة وعوادم الماكينات عن الحركة ومناطحة الهواء, لا يوجد كمامة تدرأ عنه خطورة هذا التلوث المنبعث بفيض من آلة صلبة تمتلكها آلة في ظاهرها بشر!

مع نهاية أول يوم عمل تحمله وكان على استعداد للاستمرار فيه مادامت قواه بين يديه, توجه سائلا عن مكان نومه فصٌعق من شكل المرتبة الإسفنجية المتهالكة الممتلئة بالغبار وعوادم الماكينات في نفس مكان العمل والتي أبصرتها عيناه أثناء العمل وظن أنها قمامة ولم يتخيل انها سريره! وعلى الفور غادر المكان وانطلق في رحلة الأعمى الغريب بلا لسان أو رفيق أو قريب. وسط الظلام الدامس باحثا عن العمران وكأنه مهاجر غير شرعي يسعى بين حدود دولتين بحثا عن الأمل في الحياة!

وبعد ثلاث أسابيع من هذه الواقعة بدأت الاحظ وجوه كثيرة كوجه البورسعيدي في ميدان شيرين أفلار والشوارع المحيطة به ليسوا فرادى بل مجموعات بجوار كل منها أكوام من الحقائب. بدأت التقصي في الأمر بمزيد من القلق وعرفت من بعض الأصدقاء العاملين في مجال الشحن أن هناك موجة نصب واحتيال تقوم بها مجموعة من معدومي الضمير وتأتي بالمصريين كبارا وصغارا أصحاء وآخرين استقوى عليهم المرض أصحاب حرفة أو بلا صنعة إلى تركيا بوعود التشغيل بمقابل مادي مناسب وسكن كريم.

وبحسب الأصدقاء فإن هذه الموجة استمرت لما يقرب من شهرين وبشكل شبه يومي يصل إلى تركيا 50-60 مصريا بنفس الوعود مقابل 65-75 ألف جنيه على الشخص! وكثير من هؤلاء لا يملك حتى ثمن تذكرة العودة إلى الوطن ووجدوا أنفسهم في الشوارع لأيام ولا يعلم أحد إلى متى سيظل في الشارع وحقيبته بجواره وسط موجة الحر الشديدة التي تضرب اسطنبول, يقضي حاجته في حمامات المساجد ويتردد كثيرا عندما يشعر بضرورة تغيير ملابسه فإذا وجد في المساجد ملجأ لتغييرها فما السبيل إذن لغسلها وهو يسكن في الشارع!

الغربة مهما فاضت بالخير وفتحت أبواب نعيمها تظل في حد ذاتها تربة لا يقصدها عاقل إلا إذا دعته الضرورات فما الحال مع تلك المشاهد التي صنعتها نفوس شريرة لا تعرف أي قيمة ولم تنال ذرة من الأخلاق أو الإنسانية تأتي بالعشرات إلى المجهول وترميهم في شوارع بلاد غريبة فقط لكسب المال الحرام, الملعون في كل الكتب والأعراف مهما دام.

وأخيرا أود أن أتوجه بحديثي إلى الحكومة المصرية وأصحاب القرار في بلادنا أين مصر التي يسوق لها في الإعلام على الصعيد الأمني من هذه العصابات الإجرامية التي تستبيح مواطنيها وترميهم في الغربة مشردين ؟ أين مصر النهضة الاقتصادية والنجاحات الخزعبلية على أرض الواقع ولماذا لم يجد هؤلاء الضحايا نصيبا يرضيهم ويستر أسرهم ويقيهم شر السراب والغربة؟

إلى متى سيظل الأمل مفقود بهذا الشكل في نفوس أبنائنا ولدرجة تدفعهم للمخاطرة بحياتهم فقط للوصول إلى بلاد غريبة على أمل أن يعمل بلا إذن ليحصل على مقابل مالي يستر به أهله؟ ليه وردك يابلدي النقاوة اللي يفرح في أرضه بيدبل وعايز يسافر يزهزه ويطرح؟

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى