الثورة الإسلامية في إيران 1979م، كانت ذروة الحالة الدينية التي عمت العالم الإسلامي في عقد السبعينيات من القرن العشرين ، حيث سادت فكرة، أن الرأسمالية قد أخفقت وأن الاشتراكية قد فشلت،
وأن العالم قد أفلس وأن دور الإسلام قد جاء ليقيم الحكم الإسلامي والمجتمع الإسلامي والدستور الإسلامي، والاقتصاد الإسلامي والبنك الإسلامي والكتاب الإسلامي والحل الإسلامي والشباب المسلم والطبيب المسلم والمهندس المسلم والمرأة المسلمة والزي الإسلامي إلى آخره. حالة عارمة فائرة، حملت لقب الصحوة،
أضافت أوصاف إسلامي ومسلم على كل شيء تقريباً، تكفي لحية أو حجاب أو قاموس مفردات دينية أو لافتة أو نية حسنة أو استلاب ذهني أو غيبوبة عقلية أو جذوة عاطفية متقدة؛ ليكون الشخص أو الشيء مسلماً أو إسلامياً.
هنا لم يعد الإسلام مجرد عقيدة وشريعة و فضائل وأخلاق، وإنما صار إيديولوجيا سياسية ساخطة غاضبة مثالية حالمة، توزع ما لديها من طاقات السخط والغضب في اتجاهين:
الأنظمة العلمانية الديكتاتورية، ثم الغرب الذي يدعم هذه الأنظمة.
جاءت الثورة في إيران ترجمة أمينة لهذين الاتجاهين: فهي ضد الشاه الديكتاتور العلماني المتغرب، كما هي ضد الغرب ذاته في أوضح معانيه، معناه الأمريكي، معناه الصهيوني،
معناه المعادي للإسلام. تخلصت القيادة الدينية للثورة من الشركاء الليبراليين والديمقراطيين واليسار، بما في ذلك من كان منهم متديناً، ومن كان منهم صاحب تاريخ نضالي مشرف ضد حكم السلالة البهلوية الذي أسقطته الثورة، ارتابت القيادة الدينية في كل ما هو غير إسلامي محض،
ارتابت في كل ما هو ليبرالي أو وطني أو ديمقراطي أو يساري، فكل ذلك ليس أكثر من صدى للغرب، كما هو خروج عن جوهر الدين،
نجحت الثورة في التعبير المصفى النقي عن الحالة الدينية العارمة في سبعينيات القرن العشرين. ثم عبرت عن مثاليتها وأحلامها كذلك في اتجاهين
استدعاء تاريخ إسلامي مثالي، لم يكن له وجود في الواقع على الإطلاق، ثم فرض تصور شمولي لمجتمع مسلم جديد مثالي، لم ولن يكون له وجود واقعي على الإطلاق.
مثلما كان التحديث في القرنين التاسع عشر والعشرين مجرد تقليد شكلي لأوروبا في العادات والتقاليد وأنماط الحياة بالذات بين طبقات الحكم ومن حولها من منتفعين،
وأهل امتيازات من الأعيان وكبار القوم، وهو تحديث شكلي، لم تنفرد به إيران وحدها، وإنما تكرر في روسيا وتركيا ومصر وتونس، حيث تكثر الشكليات الأوروبية مع رسوخ الطغيان والاستبداد الشرقي، كذلك جاء التحديث الإسلامي مع الثورة الإيرانية:
الرجال لا يرتدون رابطة العنق الأوروبية، وهذا إلزام مفروض بقوة القانون، النساء لا يرتدين الأزياء الأوروبية، وإنما الشادور، وهذا إلزام جبري بقوة القانون،
وعلى هذين النموذجين تستطيع أن تقيس ماذا حدث في كل شيء، فشركة الكوكاكولا تمت مصادرتها، ثم تأميمها ثم تغير اسمها إلى زمزم كولا، لقد كان من سوء حظ الشعب الإيراني، أن قامت ثورته في عقد السبعينيات من القرن العشرين، فلو قامت ثورة إسلامية مثلاً في التوقيت الراهن،
فلن تكون مشغولة بالغطاء والشكل والقناع، كما حدث في ذلك التاريخ، فقد تغيرت الدنيا وتغيرت الأفهام، بعدما ثبت للناس أن تغيير طلاء الحداثة الأوروبية بطلاء الثورة الإسلامية، إنما هو- في الواقع- تغيير طلاء بطلاء، بينما معاناة المواطن مستمرة وقائمة ومتزايدة بمرور الزمن.
ففي إيران التي تحتل المركز الخامس في إنتاج النفط بعد أمريكا والسعودية وروسيا والعراق، فإن متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي يزيد قليلاً عن أربعة آلاف دولار،
ثلث نصيب الفرد من الدخل القومي في تركيا، وأعلى قليلاً من نصيب الفرد من الدخل القومي في بلدين مثل مصر وتونس، ثم زد على ذلك أن هذا المواطن تم تجريده من الحريات الفردية والعامة باسم الثورة، وباسم الجمهورية الإسلامية، ثم قُضي عليه أن يعيش حياته في الدفاع عن الثورة وعن الجمهورية، بعد خمسة أعوام من الآن 2029 م
تكون الثورة الإسلامية قد أكملت نصف قرن بالتمام والكمال، أي مقدار عمر وتاريخ الدولة البهلوية ذاتها، وحال المواطن لم يستجد عليه أي رفاهية في بلد نفطي واسع الخيرات، ولا أحد يستطيع محاسبة الثورة، ولا أحد يستطيع الثورة على الثورة.
الثورة الإسلامية في إيران 1979م، كانت ذات معنى مزدوج، كانت الشيء ونقيضه معاً، كانت ثورة على التحديث المشوه الذي أنجزه القاجاريون 1796 – 1925 م، ثم التحديث الذي أنجزته البهلوية 1925 – 1979 م. لكنها- كعمل ثوري عظيم من أعظم ثورات القرن العشرين- هي من نتاح وثمرات وخيرات ذلك التحديث، حتى مع التسليم بتشوهه،
هي من نتاج التعرض للأفكار الأوروبية في حق الشعوب في الثورة والحريات والحقوق والواجبات وتقييد السلطات العامة بالدستور والقانون. وهذا من طبائع ثورات القرن العشرين: فثورة روسيا 1905 م، وثورة إيران 1906 م، وثورة تركيا 1909 م، وثورة روسيا مرتين في فبراير، ثم أكتوبر 1917م، وثورة مصر 1919 م، ثم ثورة مصر 1952م، كلها كانت ذات طابع مزدوج: ثورة على ما هو قائم،
ثم هي ثورة من نتاج ما هو قائم. تنفرد تركيا بأنها- رغم التعثر- بات لديها ديمقراطية قابلة للحياة، ثم قابلة للتطور، وتتشابه روسيا وإيران ومصر، أن الأنظمة التي جاءت بعد الثورات نجحت في أمرين: قطع الطريق على أي تطور ديمقراطي، ثم قطع الطريق على أي تحرك ثوري حقيقي، يتمتع باحتمالات النجاح.
وبين قطع الطريق على الديمقراطية وقطع الطريق على الثورة مساحة آمنة، تستقر فيها الديكتاتوريات في روسيا وإيران ومصر، حيث تقل المخاطر عليها من خارجها، وحيث تمثل- بكل سوءاتها- ضرورة إقليمية لا استغناء عنها، تختلف في مسمياتها من روسيا إلى إيران إلى مصر، لكنها تتفق في الجوهر: لديها انتخابات دورية منتظمة، لكن ليس لديها الحد الأدنى من الديمقراطية.
ثورة إيران الإسلامية 1979 م، استلهمت الكثير من روح ونصوص التراث السياسي للإسلاميين في مصر في بناء خطابها التعبوي الحماسي الشعبوي، لكنها وهي بصدد بناء نظام سياسي جديد، فإنها استلهمت نموذج الضباط الأحرار بعد ثورة يوليو 1925 من حيث:
1 – سحق النظام القديم، ثم سحق الخصوم والمنافسين، ثم سحق الحلفاء المؤيدين، ثم الانفراد بالشعب مباشرة دون وسطاء، ودون أحزاب فاعلة أو نقابات مؤثرة أو تجمعات لها مصداقية،
التعامل مع الشعب ليس ككتل وقوى سياسية واجتماعية متبلورة، لكن كأفراد متناثرين كل فرد بنفسه غير متحد، ولا مؤتلف مع غيره، التعامل مع المواطنين كأفراد، بكل ما يعنيه وقوف الفرد بلا حول ولا قوة، ولا طول عاجزاً متواضعاً متقزم الحجم أمام جبروت الدولة.
2 – البناء على ما تركه النظام القديم من مؤسسات نظامية أوروبية الطابع، وحديثة الإدارة مع أمرين: تطهير القيادات العليا، وكل من يُشتم منه العداء للنظام الجديد، ثم إعادة توظيف المؤسسات، فيما يخدم أغراض وتوجهات النظام القديم. وقد ساعد هذا الاحتفاظ بالبناء القديم على أمرين:
تحويل الثورة من وسيلة إلى غاية في حد ذاتها، وعلى هذه المؤسسات، أن تقوم بحمايتها والذود عنها وإقناع جمهرة الشعب بذلك، وأن المساس بالثورة خروج على الدولة أي خيانة وطنية. ثم تحويل الجمهورية من إطار لتحرير الشعب من قبضة الملكية القديمة إلى قيد جديد، يكبل الحق في التعبير أو التفكير أو التغيير، يتم تحويل الجمهورية إلى صنم سياسي، لا فرق بين جمهورية الضباط الأحرار في مصر وجمهورية الفقهاء في إيران.
3 – حكمت ثورة إيران بالتراضي شهوراً قليلة، ثم استحوذت على القوة، ثم حكمت بالقوة، وما زالت تحكم بالقوة، ليست مضطرة للتراضي، ولا للحلول الوسط مع أحد،
فهي لا ترى أحداً. الطريق ذاته الذي مهدته وعبدته ثورة ضباط مصر 1952 م، فقد حكمت بالتراضي أقل من عامين، ثم حسمت كل صراعاتها مع كل القوى المدنية مجتمعة في مارس 1954م، ومن يومها وحتى الآن 2024م، وهي تحكم بالقوة وحدها، حتى في اللحظة الإنكسارية في صباح 5 يونيو 1967م،
ظن البعض أن النظام قد يخفض جناحه، ولكن الذي حدث هو العكس، رد بكل عنف على تمردات الطلاب والقضاة والعمال وغيرهم، وفرض قبضة من حديد، كما لو كان قد خرج من الحرب منتصراً غير منهزم. هذا الحكم بالتراضي لأجل محدود، ثم بالقوة طول الوقت هو الذي سمح للنظامين بالاستقرار،
ثم الاستمرار على عكس توقعات خبراء السياسة، الأمر الذي أخفقت فيه تجربة حكم الإخوان في مصر 2012 – 2013 م، فرغم أنهم جاءوا عبر الانتخابات الصحيحة، إلا أنهم أخفقوا أن يحكموا بالتراضي، لما جُبلوا عليه من انغلاق تنظيمي، يقوم على الحواجز والمفاصلة الشعورية مع غيرهم، كما أخفقوا في الحكم بالقوة؛
لأن من سلمهم الكراسي ومباني المؤسسات، حجب عنهم مفاتيح القوة في دولة جهازها العصبي، محكوم بالشك فيهم والحذر منهم والعداء لهم على مدى ثمانية عقود، فلم يستقروا، ولم يستمروا أكثر من عام.
4 – أخذت دولة الفقهاء عن دولة الضباط أمرين: نظام الاستفتاء الشعبي ذي النتائج الكاسحة التي تفوق حاجز التسعين بالمائة في إيران، وكانت تقترب من حاجز المائة بالمائة في مصر، ثم أخذت دولة الفقهاء شاسيه الحكم الطغياني حيث، الإمام أو رئيس الجمهورية فوق كل السلطات وفوق كل المؤسسات، ثم السلطات والمؤسسات فوق الدولة، ثم الدولة فوق الشعب، الإمام الولي الفقيه القائد الأعلى يتربع في قمة قلعة حصينة، الرئيس القائد الأعلى للقوات المسلحة يتربع بعيداً على ذروة حصن شاهق.
في الأسبوع الأول من ديسمبر 1979م، جرى الاستفتاء على دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، بنسبة تصويت تفوق حاجز السبعين في المائة، وموافقة شعبية اقتربت من المائة في المائة، أو بنسبة ثمانية وتسعين واثنين من عشرة في المائة، حسب نص المادة الأولى من الدستور، هذا الدستور جمع- بعبقرية نادرة- بين الإسلام وديكتاتورية الشرق الأوسط، وهذا هو مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.