في عام 1996 كنت أنهي رسالتي للماجستير وأستعد للدخول لمرحلة الدكتوراه، وحينها تعرفت على قصة ستترك في نفسي أثرا لسنوات طويلة.
كان هناك شاب عربي يدرس الدكتوراه واستطاع بأمواله الوفيرة أن يجند ثلاثة من المعيدين الفقراء في جامعة مصرية عريقة ليجهزوا له رسالته: هذا يجمع له البيانات والمراجع، وهذا يرسم له الخرائط،
وهذا يكتب له الفصول. وما كان عليه إلا أن قرأ الرسالة جيدا قبل المناقشة (ومع ذلك وقع في أخطاء فادحة فاضحة كشفت عن استهتاره بالجميع).
حصل هذا الشاب العربي على الدكتوراه بعد أن أغدق على المعيدين الثلاثة ونقلهم نقلة ملموسة في المظهر والمسكن والملبس مقارنة ببقية الزملاء.
ليت القصة البائسة تنتهي عند هذا الحد، لكن هذا الشاب العربي بعد أن عاد إلى وطنه حاملا الدكتوراه من تلك الجامعة المصرية العريقة استلم مسؤولية وزارية في التعليم العالي بحكم ندرة الحاصلين في بلاده على الدكتوراه (قبل 30 سنة من تاريخ اليوم).
سمعت أن من بين أهم القرارات التي اتخذها صاحبنا استصدار لائحة بمنع إرسال مبتعثين من بلده إلى تلك الجامعة المصرية التي حصل منها هو نفسه على الدكتوراه.
قبل 30 سنة كانت تلك الحادثة – المؤلمة المضحكة المبكية – نادرة يمكن أن تمثل 1 في الألف من إجمالي الوضع العام في الجامعات المصرية.
كنا نؤمن إيمان العقيدة- آنذاك – أن مصر كبيرة بما يكفي، كبيرة بحجم نهر فياض كبير اندس إليه سرسوب تلوث فاستطاع النهر العظيم أن يبتلعه ويغسل أدرانه.
لكن اليوم أصبح الوضع بالغ السوء، صارت هناك جامعات مصرية في الدلتا مشهورة بأنها تساهم في حصول الطلاب العرب على الدراسات العليا مقابل مبالغ معروفة ومسالك مطروقة وأساليب مجربة.
وهناك أرقام بالأسعار حسب التخصص، وهناك أسماء لكل جامعة مصرية حسب الدولة العربية!
وقد تفشت هذه الحالات لدرجة أن ما فعله صاحبنا العربي قبل ثلاثين سنة أصبح قانونا فعليا في عديد من الجامعات الخليجية التي ترفض استقبال أي أستاذ مصري إلا إذا كان معه دكتوراه من جامعة أوروبية، وبالمثل ترفض تعيين مواطنيها إذا كانوا حاصلين على الدكتوراه من بعض الجامعات المصرية.
هل كانت هذه هي صورة مصر قبل خمسة عقود؟
إذا سألت المواطنين في الخليج والسعودية ممن هم في مثل عمري (الخامسة والخمسين) سيقولون لك مصر هي الدولة صاحبة الفضل التي جاء منها المعلمون والأساتذة وعلموا الآباء.
لم يعمل المصريون في تعليم الأخوة العرب اللغات الإنجليزية والعلوم والرياضيات والهندسة والبترول والفلك والجغرافيا فحسب بل كانوا أساتذة في تعليمهم اللغة العربية، والمدهش أنهم علموهم أصول الفقه والعقيدة الإسلامية وتلاوة القرآن.
كانت مصر حتى سبعينيات الثورة النفطية مستودعا كبيرا، أو وقل بلغة السوق اليوم كانت “هايبر ماركت” فيه من كل الأصناف، تستطيع أن تحصل منه على العلماء العباقرة والأئمة الفقهاء أو تجد فيها ضعاف النفوس والمرتشين والذين دفعهم الفقر إلى استعجال الثراء بمخالفة الضمير.
والحقيقة أن مصر ورثت هذه الصفة من قرون طويلة سابقة من السبق الحضاري، حتى أن رحالة مثل ابن بطوطة قال – قبل 7 قرون – وهو يصف سكان القاهرة:
“بها ما شئْتَ من عالِم وجاهل، وجادٍّ وهازِل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكَر ومعروف”
لقد تنبأ المفكر المصري العظيم جمال حمدان قبل 40 سنة بأن تتمكن دول الخليج الثرية بعد الثورة النفطية من “سرقة موقع مصر الجغرافي”.
والحقيقة أن مخاوف جمال حمدان كانت وطنية غيورة أكثر منها علمية صرفة، ولو كان عرب المشرق سرقوا موقع مصر الجغرافي، لقلنا اليوم إن هذه ليست بسرقة بل انتقال للأهمية الجغرافية من بلاد النيل إلى المشرق، وما الحياة في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك إلا تناوب المواقع، ولقلنا إن انتقال الأهمية إليهم بسبب البترول هو على سبيل “إعارة” المواقع الجغرافية إلى حين، كما كنا نعير الأساتذة والفنانين والأدباء والعلماء ثم يعودوا إلينا مرة أخرى.
إن ما خشي منه جمال حمدان هو أقل بكثير مما وقع وحدث على طول الجبهة الشرقية !
لماذا أكتب هذه السطور؟
شاهدت بالأمس فيديو بائس جديد في مسلسل الفيديوهات التي تصدر عن الممثلين والمطربين المصريين الذين يمجدون في دول الثراء العربي ويظهرون بمظهر ماسخ يدعو للسخرية وهم يقدمون صورة بهلوانية عن مصر.
والحقيقة يجب ألا نغضب من أن مطربا يتلون أو يبيع فنه، هذا في النهاية مطرب أو ممثل وقع في إدمان المال والكاميرا والضوء.
أقول إنه ليس مفاجئا ظهور أمثال هؤلاء في كل المجالات طالما كانت مصر مستودعا كبير ونهرا عظيما تستطيع مياهه النقية أن تغسل الأدران.
لكن خوفي أيها السادة – وقد أطلت عليكم هذا الصباح – أنني لست على يقين أن هذا المستودع أو “الهايبر ماركت” ما زالت به كل السلع العظيمة.
أخشى أن تكون كل السلع العظيمة قد نفدت أو تكاد…ولم يبق في الماركت سوى المساخر والمهازل ..وهي بالمناسبة آخر السلع القابلة للبيع.
ما العمل؟
الحل بسيط ومؤلم ويحتاج نفس طويل لكنه مضمون النجاح:
إنقاذ التعليم الجامعي ومن قبله التعليم المدرسي ومنح حرية الكلمة والفكر وفتح المجال العام وتداول السلطة واسترداد الحياة الحزبية الحقيقية والحياة البرلمانية الحقة لا الشكلية أو التمثيلية وإعطاء قبلة الحياة الأخيرة للصحافة لتفيق من موتها الموعود .
ولو فعلنا ذلك متى تسترد مصر قوتها السابقة؟
بعد عشرين سنة من العمل الجاد ليل نهار ؟
هل ننتظر عشرين سنة اخرى؟
إن لم نفعل سننتظر 100 سنة أخرى !