مقالات ورأى

هشام جعفر يكتب : الإصلاح الملح استرداد مصر للمصريين

ماهي الحدود الدنيا التي رسمها المصريون لجودة معيشتهم التي تتدهور باستمرار؟

تعليم الأبناء، وصحة الأبدان، وأمن الشوارع، ومسكن يأوي إليه وأسرته، وضمان إمدادات الغاز والكهرباء والماء، هي حد الكفاية للمصريين.

إذا كان ذلك كذلك؛ يصبح السؤال: ما الذي تبقى للمصري من هذه المقومات الأساسية؟ وما الذي يستبقي منها مستقبلا؟

سؤال في جوهره، يتعلق بطبيعة الدولة المصرية وأدوارها، ونوعية العقد الاجتماعي الذي يحكم سياساتها وأولوية الإنفاق بها، كما يخص تشكيل علاقات السلطة والثروة وإدارة الموارد وتوزيعها، ومعها تحديد أولويات الإنفاق العام،

بما يعيد تشكيل الخرائط الاجتماعية والمصالح المرتبطة بها. وأخيرا وليس آخرا؛ فإن هذا السؤال يتعلق بوضعنا في الإقليم ودورنا فيه، وعلاقاتنا بالنظام الدولي في هيكله الرأسمالي بخاصة.

وهنا حق لنا، أن نشير سريعا إلى: أنه لا يزال هناك طلب من عموم المصريين على الدولة؛ لتوفير الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم- كما حددوها،

ولكن الدولة- في جمهوريتها الجديدة- تستشعر عجزها عن الوفاء بهذا، وتحول المصريون في إدراكها لـ “عبء” و”تهديد” يجب التخلص منه. هي قد حزمت أمرها، واتخذت قرارها بإلقاء أكثرهم وراء ظهرها: فهم لا يعملون، يتناسلون كثيرا، ويطلبون مزيدا من الدعم من الدولة،

وهي العاجزة التي لا تملك إلا القليل لتقدمه، وإن قدمته؛ تتبعه بالمن والأذى الذي نُهينا عنه شرعا في الصدقات، وما هي بصدقة، بل حق معلوم للمواطن على المسئول.

هل يتطور الأمر مع الدولة المصرية فلا يتبقى منها غير المعنى الهوبزي فقط؟- أي الأمن مقابل الإذعان والطاعة.

مقارنة بين موازنتين

تتراجع في الموازنات العامة، كل ما يخص المواطن من مخصصات: دعم وأجور وإنفاق عام إلي النصف تقريبا لصالح خدمة الديون التي زادت من الربع في موازنة ٢٠١٨ /٢٠١٧،

إلى الثلثين في موازنة العام الجاري. وفي الوقت الذي تمثل فيه الضرائب- التي يدفعها عموم المصريين- نسبة الأربعة أخماس من إيرادات الموازنة العامة؛ فإن أولويات الإنفاق العام لا تراعي تطلعاتهم.

المصدر الرئيسي للإيرادات الضريبية، يأتي من ضريبة الاستهلاك التنازلية، والتي تبلغ 828 مليار جنيه مصري (17 مليار دولار)؛

وفي المرتبة الثانية، تأتي الضريبة المحصلة من أرباح الشركات، والتي تبلغ 239 مليار جنيه مصري (5 مليارات دولار).

بهذا يجري نقل منهجي للثروات من الفقراء، وأبناء الطبقة المتوسطة في مصر إلى دائني النظام ونخبته الحاكمة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وشركاته،

ومنظمات التمويل الدولية كالبنك الدولي والصندوق، ومؤسسات الرأسمالية المعولمة.

كم نقل إلى الشمال المتقدم؟ وكم تبقى في الداخل؟ ومن استفاد منه؟

تراجعت حصة القطاع الخاص المصري من إجمالي الاستثمارات المنفذة من ٥٨٬٣٪؜ في العام ٢٠١٤ /٢٠١٣ إلى ٢٥٫٥٪؜ في ٢٠٢٣ /٢.٢٢، سمحت الديون للنظام بتعزيز حكمه وإنشاء علاقة تكافلية عميقة بينه،

وبين قاعدته في المؤسسات السيادية، كما سمحت بترسيخ نفسه في النظام المالي العالمي، وجعلت البلاد تعتمد بشكل كبير على كفلاء الخليج.

لم تعد السياسات الاقتصادية ذات بعد محلي غالبا، بل باتت جزءا من إعادة هيكلة المنطقة، وموقعها في الاقتصاد الدولي، ومسارات الطاقة، وممرات التجارة الدولية.

الاستحواذات جزء من مشروع أكبر لإعادة هيكلة المنطقة سياسيا واقتصاديا وثقافيا. هي جزء من اتفاقات إبراهيم التي قامت على قيادة الاقتصاد للسياسة والقضاء على كل مظاهر المقاومة في المنطقة. هي تعبير عن الصراع الدائر حول ممرات التنمية وخطوط الطاقة،

بما تعنيه من صراع دولي بين الصين وبين الولايات المتحدة، وتأكيد لمركزية دول وتهميش أخرى في الإقليم. وفي الأخير، هي تعبير عن تطور الرأسمالية الخليجية، ومكونات مشروعها السياسي والثقافي، ورؤيتها لدورها في الإقليم.

من المتضرر ومن المستفيد من السياسات الاقتصادية المطبقة؟

أدت فورة الديون التي استخدمها النظام لتمويل مشاريع البنية الأساسية والعاصمة الإدارية وغيرها، إلى تراكم رأس المال في البلاد بطرق جديدة،

وقد استلزم ذلك إنشاء طبقة جديدة من الرأسماليين الذين تقودهم، ما يطلق عليه المؤسسات السيادية، الذين يستخدمون سيطرتهم على الدولة لمراكمة الثروة. على المقابل فقد انتهت هذه السياسات بإفقار عموم المصريين،

وهو مرشح للتفاقم بحكم، أن أسس السياسة الاقتصادية التي جرى العمل بها على مدار العقد الماضي، لم تتم مراجعتها، بل ومن المتوقع الإمعان فيها حتى نهايتها- كما يتضح في برنامج الحكومة.

وفقا لدراسة أجراها خبراء في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، زادت نسبة العمال المصريين المحرومين من الدخل الكافي من 55% في عام 2006 إلى 73.3% في عام 2018.

شهد قطاعا الصحة والتعليم تراجعًا في العقد الأخير؛ في وقت لا يزال عموم المصريين يتطلعون؛ لتلبية احتياجاتهم منهما من الدولة.

في عهد الرئيس السيسي، تراجع الإنفاق على الصحة كنسبة من الناتج المحلي؛ إذ كانت تبلغ نحو 1.5% في موازنة 2014 /2013، فيما بلغت في موازنة العام المالي الحالي 2024/ 2025 نحو 1.17% فقط من الناتج المحلي المُتوقع في نفس العام.

تراجع الإنفاق على التعليم كنسبة من الناتج المحلي إذ كانت تبلغ نحو 3.9%، في موازنة 2014 /2013، فيما بلغت في موازنة العام المالي الحالي 2024/ 2025 نحو 1.72% فقط من الناتج المحلي المُتوقع في نفس العام.

يجري هذا في ظل “أبارتهيد اجتماعي”؛ والتعبير لعمرو عادلي- أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة- ويقصد به، أن من ولد فقيرا أو صغيرا أو ضعيفا أو مهمشا في مصر اليوم،

يظل على حاله إلا من رحم ربي، ومن ولد غنيا أو كبيرا أو قويا أو ممكنا فهو كذلك، إلى أن يشاء الله.

انتقل 67% فقط من أطفال الأسر الأكثر فقرًا في السلم التعليمي، مقارنة بـ 97%من أطفال الأسر الأكثر ثراءً.

أيضا، تقل احتمالية تحقيق النساء في مصر للتنقل إلى أعلى من الرجال. على سبيل المثال 63% فقط من النساء، صعدن إلى أعلى السلم التعليمي مقارنة بـ 83% من الرجال.

الوظائف في مؤسسات الدولة متاحة في الوقت الحاضر فقط لأقلية ذات امتياز (نسبيًا)، وبمجرد الحصول عليه، لا يتخلى شاغلوها عنها عمليا. يمتد التوريث في بعض مؤسسات الدولة- خاصة السيادية منها- بين الأجيال المتعاقبة في الأسرة الواحدة.

يجري “اكتناز الفرص” وليس الثروة والدخل فقط، ويقصد باكتناز الفرص- والتعبير لستيفن هيرتوج- في كتابه إلهام عن التنمية المحجوبة في العالم العربي،

أن أصحاب الحظوة العرب لديهم، ما يخسرونه أكثر من أي مكان آخر، وموقعهم الداخلي [داخل الامتيازات] أكثر استقرارًا بمرور الوقت،

مما يوفر فرصًا وحوافز قوية بشكل خاص لـ “اكتناز الفرص”، ونتيجة لذلك، غالبًا ما يقاوم هؤلاء الإصلاحات بنشاط سواء في الأنظمة الاستبدادية أو الديمقراطية.

في الوقت الذي ازداد فيه إفقار المصريين (بلغت نسبته في ٢٠٢٢: ٣٢٬٥٪؜ ـ وفق البنك الدولي) زادت أرباح الشركات الكبرى في مصر أضعافا مضاعفة.

استفادت هذه الشركات من زيادة الأسعار التي هي في المقابل، تعني مزيدا من الخصم من جودة حياتهم.

قفزت الأرباح الصافية لشركة التشخيص المتكاملة القابضة بنسبة 139% على أساس سنوي إلى 402 مليون جنيه في الربع الأول من عام 2024، 

بدعم من قيام الشركة برفع أسعار الاختبارات للتحوط من الضغوط التضخمية، إلى جانب ارتفاع عدد الاختبارات.تضاعفت الأرباح الصافية لمجموعة طلعت مصطفى القابضة بنحو 6 مرات على أساس سنوي؛ لتصل إلى 4.1 مليارات جنيه في الربع الأول من عام 2024،

بزيادة قدرها 491% على خلفية اتفاقية شهدت استحواذ المجموعة على سبعة فنادق تاريخية، من خلال شركتها التابعة العربية للاستثمارات الفندقية والسياحية (أيكون).

دفعت صفقة الاستحواذ- التي شارك فيها الإماراتيون لاحقا- قطاع الفنادق لدى مجموعة طلعت مصطفى إلى تحقيق إيرادات قياسية بلغت 3.7 مليارات جنيه خلال الربع، بزيادة قدرها 360% عن نحو 800 مليون جنيه فقط خلال نفس الفترة قبل عام.

نقطة أخرى وهي: إن التعرض للسياسات النيوليبرالية لا يحدث بشكل متساو؛ حتى في داخل الفئة الاجتماعية الواحدة، ومن ثم فإن التآكل لا يحدث بشكل متساو، مما يؤدي إلى أشكال من الإقصاء الاجتماعي، وأنماط من الركود الاقتصادي لا يمكن لمفاهيم بسيطة- مثل الطبقة الوسطى- تفسيرها.

لا شك، أن كبار الأطباء وأصحاب المكاتب الهندسية الاستشارية الكبرى، بالإضافة إلى الشركات الخاصة العاملة في هذه القطاعات، مستفيدون من تراجع إنفاق الدولة علي التعليم والصحة، وزيادة إنفاقها على المشاريع الكبرى.

تراجع عدد المستشفيات والمنشآت العلاجية الحكومية من نحو 6 آلاف في 2014 إلى 5650 مستشفى ومنشأة علاجية في 2021، بنسبة تراجع 5.9 %،

بحسب أحدث الإحصاءات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وانخفض عدد الأسرة في المستشفيات والمنشآت العلاجية الحكومية بنسبة 15% تقريبًا، من 98 ألف و700 سرير في 2014 إلى 83 ألف سرير في 2021.

في المقابل؛ ارتفع عدد المستشفيات والمنشآت العلاجية التابعة للقطاع الخاص من 1395 في 2014 إلى 1547 مستشفى ومنشأة علاجية في 2021،

بنسبة ارتفاع 11% تقريبًا. وزاد عدد أسرة مستشفيات القطاع الخاص خلال هذه الفترة بنحو 9 آلاف و800 سرير، بنسبة ارتفاع 40%، من 24 ألفا و600 سرير تقريبًا في 2014 إلى 34 ألفا و500 سرير في 2021.

وفي الوقت الذي تراجع فيه الإنفاق على التعليم؛ ارتفع عدد الطلاب في المدارس الحكومية بنسبة 34% تقريبًا، من 16.8 مليون طالب قبل 10 سنوات إلى 22.6 مليون طالب في العام الحالي.

هل يبدأ الإقصاء اقتصاديا، ثم يتحول إلى سياسي واجتماعي وثقافي؟ أم يبدأ سياسيا ثم يتحول إلى اقتصادي واجتماعي وثقافي؟

سؤال يستحق المتابعة، ولكن ما نحب أن نشير إليه هو: كيف ستتعامل الدولة مع كمية الغضب المتولد لدى عموم المصريين من فقدانهم لدولتهم أو تخليها عنهم؟ وهو ما يستحق أن نناقشه في مقال آخر.

المصدر مصر 360

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى