مقالات ورأى

الدكتور ياسين أقطاي يكتب : قضايا وأحداث.. حب الوطن لا يعني العنصرية والإقصاء

أصبح استخدام كلمة «بلدي» مُتداولًا كثيرًا، وبالعبارة الحديثة (ترند) في الآونة الأخيرة، باعتبارها كلمةً نتشبث بها عند التعبير عن أي مشاعر سلبيّة تجاه أي شخص آخر يختلف معنا في الفكر.

وعند الانزعاج من أي شيء، وأحيانًا تصير «آه يا بلدي» للتعبير عن القلق أو الندم على ما صارت إليه البلاد. «آه يا بلدي ما هذه الحالة التي وصلت إليها؟!»

على سبيل المثال، عندما ترى سيدةٌ تركية علمانية نساءً تركيات مُحجبات في امتحان التوظيف الحكومي (KPSS)، تُصاب بالحزن الشديد وتصرخ: «آه، بلدي الجميل.. يا له من عار.. لم نتمكن من حماية بلدنا ودولتنا ! إنه لموقف عجيب من تلك السيدة العلمانية التي حصرت البلد على نفسها. فمتى أصبح البلد حصرًا عليها أو على غيرها؟!

وفي السياق نفسه كان رد فعل مواطن تركي على آخر مثله لكنه اعتبره ربما بسبب تدينه «مُناهضًا للنساء»، فقال: «ليس من حقك الوجود هنا؟

أنت قنبلة حيّة، وهذا بلدي، ومكان كارهي النساء أمثالك ليس هنا. هيا اذهبوا وأنقذوا غزة بدعائكم وصلواتكم».

ومع الأسف أن يملك من يقولون «بلدي» الجرأة ليصفوا من يدعون لغزة بأنهم غرباء عن هذا البلد. وينسى أو يتناسى أن غزة كانت جزءًا من بلده قبل 107 سنوات،

وأن المُقاومة والحرب والبطولة التي يقوم بها أهل غزة اليوم من أجل الحصول على وطن لها مثلنا.

أضف إلى ذلك ما قام به أحد الأشخاص الذين يملكون تصورًا ذهنيًّا لـ «بلدي»، في الأسابيع الأخيرة في إسطنبول من تهديد الزبائن العرب المُستثمرين رفيعي المُستوى بأحد المطاعم، وهو يصرخ: «هذه بلادي، أين أصحابك؟ أنا تركي. أنا لا أهتم بكونكم عربًا».

ومن الواضح أنه قد أُصيب بالعمى إثر ما تركه ذلك التصوّر العقيم لمعنى «بلدي» الذي استولى عليه وأغلقها في رأسه. لا شك أنه يحب بلده حقًّا، لكنه يمزج حبه بالكراهية والعداء والأنانية. هذا هَوَسٌ وحُبٌّ يضر بالبلد الذي أحبه بأفعالٍ لم يستطع الغزاة القيام بها خلال سنوات الحرب.

إنه حُبُّ البلد الذي يقتل ويفني ويترك البلد قاحلة وجحيمًا له وللآخرين. إنه لا يعرف أن ما لا يقل عن 5-6 ملايين من هذا البلد هم عرب أصلًا، وأنه لو لم ننسحب من الجبهة الفلسطينيّة، لكانت كل من سوريا وفلسطين وكل سكانها العرب ضمن حدود هذا البلد.

من هذا الشخص الذي يصرخ بلغة وسائل التواصل الاجتماعي: اخرجوا من بلدي! لا أريدك في بلدي! لا أريد سوريين في بلدي! لا أريد لاجئين في بلدي! من أنت؟! ومن يُعطيك الحق في التحدّث نيابة عن بلد يعيش فيه 85 مليون شخص؟!

أليس من المُضحك أنه حتى أولئك الذين جاؤوا إلى هذا البلد لاجئين قبل مئة عام، خاصة أولئك الذين لم يظهروا سوى الأذى والعداء لهذا البلد وشعبه، يستخدمون ورقة «بلدي» ضد من جاؤوا قبل 1400 عام داعين إلى الله؟!

في الواقع، هل يعرف ما الذي يتحدّث عنه عندما يقول «بلدي» من أجل إبعاد الآخرين وابتزازهم، وعمَّن يتحدث عندما يقول «أنا» و»لي»؟

هل هو على علم بنفسه؟

ما الذي لدينا حقًّا في هذا العالم والذي يمكن أن نسميه «لي»؟ ألا يدرك هذا ومن هم على شاكلته أن كل شيء قد عهد به الله إلينا رزقًا وابتلاءً؟ ألا يعرفون أنه حتى أنفاسهم أمانة عندهم،

وأنهم لا يملكون النَفَسَ الذي يتنفسونه؟ ثم يصرخون بثقة كبيرة ويقولون «لي»؟!

هل يعي هؤلاء كيف أصبح البلد وطنًا؟ أي ثمن دفعته العقلية التي ترى البلد مُجرد قطعة أرض تمَّ الاستيلاء عليها؟ هل مُجرّد الولادة على هذه الأرض يُعطيك الحق في قول «ملكي» بهذه الطريقة الإقصائيّة والاستيلاء؟

البلد ليس إرثًا أو ملكًا لوالد أي شخص. الوطن ليس شيئًا يمكن استبداله بدول أخرى بالنسبة لنا. إنه الوطن السكن دار الإسلام. أساسها هو الأذان الذي يعلو بالشهادة على المآذن،

بما يحمله من معاني الثقة والأمان والمسؤولية ومديونية الجميع للبلد. ومن يقولون «بلدي» دون الشعور بأي مسؤولية تجاهه دون أي ديون،

دون بذل أي جهد، ولا يُفكّرون إلا في حقوقهم التي سيحصلون عليها، لا يفهمون من البلد سوى قطعة أرض يستغلونها.

لكن هذا الوطن، قبل أن يكونَ قطعة أرض، هو وطن سُقِي بدماء الشهداء، وكان ملجأً للمظلومين عبر التاريخ، وأصبح مُتميزًا في النضال من أجل كلمة الله.

المصدر الراية

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى