قبل إجراء الانتخابات الرئاسية في إيران مؤخراً، تناولت المناظرات بين المرشحين للرئاسة الإيرانية علاقات إيران الخارجية، حيث ركز البعض على أهمية الانفتاح، وضرورة التواصل مع الغرب والولايات المتحدة لجهة الملف النووي الإيراني والعقوبات المفروضة على إيران.
كما ألقى بعض المرشحين في هذا الشأن المسؤوليّة على عاتق من تولّى مقاليد الأمور في السنوات السابقة التي أعقبت توقيع الاتفاق النوويّ بين إيران والمجموعة 5+1، وما آلت اليه العلاقات بين الغرب وإيران بعد انسحاب الولايات المتّحدة منه.
اليوم وبعد انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية مسعود بزشكيان، يطرح المراقب والمتتبّع للشأن الإيراني، السؤال بكلّ موضوعية:
هل إيران هي التي تخلّت وانسحبت من الاتفاق النووي حتى نحمّلها مسؤولية تدهور العلاقات مع الغرب؟!
وهل الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد توقيع الاتفاق، ولحين انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب منه بعد ثلاث سنوات عام 2018، سجلت خرقاً واحداً للاتفاق من جانب إيران؟!
هل التزمت الدول الأوروبية الثلاث بريطانيا وفرنسا وألمانيا بالاتفاق النووي، التي وإنْ لم تنسحب منه شكلياً، إنما انسحبت عملياً مثلها مثل واشنطن؟!
وأكثر من ذلك، ألم تلتزم هذه الدول بتنفيذ العقوبات الأحادية الجانب التي فرضها ترامب على إيران، دون أن تحترم هذه الدول الثلاث الاتفاق الدولي، وتحافظ على قرارها السيادي المستقلّ، وتثبت على الملأ، أنها خاضعة، وتابعة للإرادة الأميركية في كلّ ما تتخذه من قرارات حيال إيران؟!
الذين حمّلوا مسؤولية تدهور علاقات إيران مع الغرب في الفترة السابقة، والعقوبات المفروضة عليها، بسبب سياسات طهران المتشدّدة إزاء الغرب، فيه الكثير من التحامل والظلم. ما الذي كان على إيران أن تفعله إزاء انقضاض ترامب على الاتفاق النووي؟!
وما الذي كان يتوجّب عليها أن تفعله بعد أن دعاها ترامب الى طاولة المفاوضات مجدّداً، للبحث ليس في ملفها النووي فقط، وإنما البحث في ملفات أخرى ترتبط مباشرة بسيادة إيران وقرارها الوطني، وأمنها القومي، كملف الصواريخ، وبرامج الفضاء وغير ذلك من الملفات الحساسة.
ما بإمكان الرئيس الجديد مسعود بزشكيان أن يفعله حيال الملف النووي؟!
ومن الذي عليه أن يأخذ المبادرة لإعادة الأمور الى نصابها، ووضع حدّ للخلاف الناجم بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، وإعادتها فرض العقوبات وتشديدها على إيران؟!
مَن خرق الاتفاق عليه مدّ الجسور، وليست إيران صاحبة الحق التي يتوجّب عليها القيام بالمبادرة، حتى لا تضع نفسها في موقف ضعيف، تبحث فيه عن مخرج بأيّ شكل من الأشكال.
موقف الولايات المتحدة واضح لا لبس فيه، فهي لا تريد إيران قوية، ودولة تمتلك التكنولوجيا النووية السلمية، ولا تريد أن ترى إيران قوة مقتدرة، صاحبة قرار مستقلّ، تتصدّى لهيمنة واشنطن ونفوذها وسعيها للسيطرة على المنطقة، وترفض وجود دولة الاحتلال «الإسرائيلي» في الشكل والأساس.
ما الذي تستطيع إيران أن تقدّمه لواشنطن والغرب بعد أن حصلت على الحدّ الأدنى من حقوقها في الاتفاق النووي، الذي وصفه نتنياهو بعد ساعات من توقيعه بأنه «خطأ تاريخي»، وشدّد في وقت لاحق على أنّ «إسرائيل» غير ملزمة بالاتفاق الموقّع بين إيران ومجموعة 5+1.
لا يمكن لإيران أن تتراجع في مسألة الاتفاق النووي، لأنّ أيّ تراجع سيدفع بواشنطن وحلفائها الى ابتزاز طهران وطلب المزيد منها.
كم كان مرشد الثورة الإيرانية السيد علي الخامينئي على حق، بعيد النظر وحاد البصيرة عندما وجد رغبة عند بعض المسؤولين الإيرانيين، وإلحاحاً منهم لإجراء مفاوضات حول البرنامج النووي، وكان ذلك قبل توقيع الاتفاق عام 2015، قائلاً لهم: «إذهبوا، إنّ أميركا لن تعطيكم شيئاً».
وبالفعل لم تنفذ واشنطن شيئاً من الاتفاق الذي مرّ عليه أكثر من تسع سنوات، ولم تترك الآخرين يعملون على تنفيذه، بل ألزمتهم مرغمين على تطبيق عقوباتها التعسّفية السابقة، والعقوبات اللاحقة الأكثر شراسة على إيران.
لا تقتصر العلاقات السياسية المتدهورة بين إيران والغرب وبالذات الولايات المتحدة، على البرنامج النووي الإيراني، وإنما تتعدّاه الى أبعد بكثير. دولتان على طرفي نقيض.
واشنطن لم تتقبّل يوماً الثورة الإيرانية منذ عام 1979، ولن تتقبّلها لحظة، لأنها ترى في نظامها ما يشكل تهديداً مباشراً لمصالحها، وخطراً على نفوذها، واستغلالها في الشرق الأوسط، ورفضاً مطلقاً لدولة الاحتلال الإسرائيلية في فلسطين، وايضاً وقوفها ودعمها على الدوام لقوى المقاومة في المنطقة.
لن تعطي واشنطن لمسعود بزشكيان ما لم تعطه لحسن روحاني.
فتحسين العلاقات بين واشنطن وطهران، لا يتمّ عبر الضغوط وفرض الإملاءات والقرارات التعسّفية الأحادية الجانب، والعقوبات الأميركية الشرسة على إيران.
لقد ظنّ الرئيس ترامب، وبعده جو بايدن، أنّ تطويق إيران بالعقوبات، سيدفعها سريعاً الى الخضوع، والجلوس من جديد الى طاولة المفاوضات الأميركية، لينتزعوا منها ما لم يستطيعوا انتزاعه من خلال الاتفاق النوويّ عام 2015، دون أن يدركوا أنّ نفَس إيران وصبر شعبها طويل طويل، خاصة إذا كان الأمر يتعلّق بسيادة دولة، وحقوق وطن، وكرامة شعب.
فإذا ما أرادت الولايات المتحدة فعلاً إيجاد حلّ لخلافاتها المستحكمة مع إيران منذ عقود، والتطرق الى الملفات الساخنة، ما عليها إلا أن تتخلى عن شروطها المسبقة، وكراهيتها، وعدائها، وحصارها للنظام الإيراني.
فالخطوة الأولى تبدأ من واشنطن وليس من طهران. فمن أدار ظهره للاتفاق النوويّ، وارتكب خطأ سياسياً، وأخلاقياً وخرج من الاتفاق بشكل غير أخلاقيّ ودون مبرّر، عليه ترميم ما هدم، وإنْ كان الرجوع عن الخطأ يأتي من دولة عظمى.
لو أرادت إيران أن تساوم على حقها وتتحرّر من العقوبات لفعلت ذلك، لكن لا مع الرئيس حسن روحاني ولا مع الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ولا حتى مع الرئيس الجديد مسعود بزشكيان، على استعداد اأن تتخلى عن حقوقها الوطنية، وقراراتها السيادية.
فلا تنتظر إيران ايّ أمل او رجاء من الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، ولا أمل أيضاً يُرتجى من دونالد ترامب إذا ما عاد بعد أشهر الى الرئاسة الأميركية، فكلاهما وجهان لسياسة واحدة تناصب العداء لكلّ بلد وحاكم في المنطقة يريد أن يحافظ على قراره المستقل، ويحفظ كرامته وكرامة شعبه، ويرفض الدخول في بيت الطاعة الأميركي.
مشكلة الولايات المتحدة في تعاطيها مع إيران بعد 45 عاماً من ثورتها، أنها لم تستوعب بعد حقيقة وهي، أنّ كلّ العقوبات المتتالية التي فرضتها عليها منذ عام 1980 وحتى اليوم، لم تستطع لويَ ذراع الإيرانيبن، وإنْ كانت العقوبات قاسية وشديدة عليهم.
كما لم تستوعب واشنطن، أنّ عقيدة الثورة والنظام، ومعدن قادتها، ليست كعقيدة ومعدن الشاه ونظامه، الذي كانت تحركه من الداخل السفارتان الأميركية والبريطانية.
ولعلّ مذكرات أسد علم رئيس الديوان الملكي في كتابه: «الشاه وأنا»، خير دليل على مدى تأثير وهيمنة النفوذ الغربي على إيران الشاه.
مَن يراهن على هرولة إيرانية باتجاه الولايات المتحدة دون قيد أو شرط بغية رفع الحصار والعقوبات عنها، ومهما كان الثمن، فهو واهم.
لا يراهننّ أحد في الخارج على الانتماء السياسي لرئيس الجمهورية، أكان انتماؤه لتيار المحافظين او الإصلاحيبن.
فعند المحك والاستحقاق، ومصالح إيران القومية والأمنية، يصبح انتماء وولاء الجميع تلقائياً لإيران، وثورتها، وجمهوريّتها!