أيمن منصور ندا يكتب : رسالة مفتوحة إلى فخامة الرئيس
سيدي الرئيس: “إنَّ الوصيةَ لو تُرِكَتْ لفضلِ أدبٍ، تُرِكَتْ لذلك منكم”، وإنَّ النصيحة لو حُجِبت لكمال إخلاص، وتمامِ صدقٍ، لكنتم على رأس الزاهدين فيها، والمستغنين عنها، ولكنَّها (الوصية/ النصيحة) “تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل”، و”ذكرى تنفع المؤمنين”.. والوصية/ النصيحة عند البدء أكثر خيراً، وأعمُّ فائدة، من العتاب عند نهاية المآل.. وبمناسبة فوزكم بفترة رئاسية جديدة لمدة ست سنوات قادمة،
حقٌ لكم أن نهنئكم، وواجبٌ علينا أن نذكركم.. وبمناسبة إعادة تشكيل الحكومة، والتغييرات التي طالت كثير من الوظائف، فقد أصبحت المصارحة معكم فرضاً وواجباً.. لا أكتب إليكم تشكيكاً في وطنيتكم، ولا مزايدةً عليكم في إخلاصكم لهذا الوطن، وتفانيكم في خدمته، فوطنيتكم، وإخلاصكم، وتفانيكم، حقائق ثابتة لا تحتاج إلى نقاش أو جدل، ولا تتطلب منا أو منكم إقامة الدليل عليها، ولكنّي أكتب إليكم إبرازاً لبعض نقاط الاختلاف في الرؤى، وتوضيحاً لاتجاهٍ كامنٍ لدى البعض، وتعبيراً عن مشاعر خرساء لدى البعض، قد لا تكون واصلة إليكم، أو غير مطروحة للنقاش الرسمي في مجلسكم.. وفي كلّ الأحوال، فإنَّ “اختلاف الرأي لا يفسد للوطنية قضية”..
سيدي الرئيس: أكتب إليكم وأنا محسوبٌ على جبهتكم، وواحدٌ من مؤيدي نظامكم.. عشتُ مع الملايين الحلم الكبير بأن تكون مصر “أد الدنيا”، وعانيتُ معهم السقوط المرير”زنقت نفسي وزنقت الدولة بس أنا معنديش خيارات تانية”..
حلمتُ معهم بمصر القائدة في منطقتها، وصاحبة القرار في شئونها الداخلية والخارجية، وعشتُ معهم الحسرة على ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس.. في الحالين، كنتُ معكم؛ مؤيداً ومدافعاً.. غير أنَّنا، نحن المؤيدين لنظامكم (السيساوية)، نعيش في مأزقٍ وجوديّ في هذه الأيام؛
فلا نحن راغبون في الانتقال من صفوف المؤيدين إلى صفوف المعارضين، ولا نحن قادرون على إنكار مفردات الواقع المرير، أو على تبرير الإخفاقات المتتالية.. لقد خذلنا الأداء العام للحكومة وللنظام السياسي في السنوات العشر الماضية.. لم يصدق أحد معنا في وعد أو عهد، بل كانت الأفعال والسياسات كلُّها على عكس ما استبشرنا به وأملنا فيه..
سيدي الرئيس: نحن نعيش في نكسة مشابهة تماماً لنكسة يونيو 1967.. الأسباب التي أدت إلى نكسة عبد الناصر والسياسات الخاطئة التي ارتكبها نظامه خلال الأعوام (1960-1967) هي نفسها وبدرجة تطابق كبيرة الأسباب والسياسات التي قمنا بها خلال الأعوام (2016-2024).. كمَّم الرئيس عبد الناصر الأفواه، وانفرد بالقرار،
وأزال الخط الفاصل بين الدولة والرئيس، وطبَّق مقولة الملك لويس الرابع عشر: “أنا الدولة والدولة أنا”، وأنفق موارد الدولة النقدية وأرصدتها الذهبية في مغامرات سياسية ومقامرات عسكرية، وفي السعي نحو تحقيق أمجاد شخصية، ولو كان ذلك على حساب الوطن.. كان عبد الناصر يرى أنَّه أكبر مقاماً من مصر،
وأعزُّ من شعبها(أنا الذي علمتكم الكرامة!)، وأعلم من خبرائها.. وكانت النتيجة نكسة كبرى، ونكبة أليمة، وهزيمة ساحقة في كل مجالات الحياة لا نزال نعاني آثارها حتى الآن.. ما أشبه الليلة بالبارحة! هل يعيد التاريخ نفسه؟ أم نحن الذين نكرِّر أخطاء الماضي وخطاياه ونطمع في تحقيق نتائج جديدة؟!
سيدي الرئيس: مسَّنا وأهلَّنا الضرُّ نتيجةً للسياسات العامة الخاطئة خلال السنوات العشر الماضية.. نحن نعيش في أزمة مركَّبةٍ وتداعيات مرعبة.. نعيش أجواء هزيمة اقتصادية، ونكسة حضارية، ونكبة ثقافية، وغيبوبة إعلامية،
واضمحلالاً كاملاً يغطي مناحي الحياة كافة.. وليست المشكلة الكبرى حالياً في انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار، ولا في انخفاض مستوى المعيشة وقسوتها على الجميع، وليست في شيوع اليأس والقنوط لدى قطاعات كثيرة من الناس، ولا في سيادة إحساس عام بالضعة والهوان والخذلان عند فئات كثيرة.. المشكلة الحقيقية تكمن في أنَّ نظام الحكم الحالي لا يقر بالهزيمة حتى نستطيع تجاوزها، ولا يعترف بالضياع حتى يمكن إعادة ضبط البوصلة،
ولا يرى اعوجاجاً في الطريقة حتى يمكن تقويمها.. المسئولون والإعلاميون يقولون لنا: “إنَّ كلَّه تمام وتحت السيطرة”، وإنَّ ما تحقق هو إنجاز غير مسبوق، وإعجاز صعب تكراره.. وهي حالة إنكار لا يعلم عواقبها إلا الله.. هذه الحالة من الإنكار تجعل العلاج صعباً، وتجعل من تجاوز النكسة أمراً مستحيلاً!
سيدي الرئيس: مرت مصر بتجارب إصلاحية عديدة خلال القرنين الماضيين، بدءاً بتجربة محمد علي باشا، وانتهاء بتجربتكم الإصلاحية.. وقد اتسمت كلُّ تجربة منها بسمة معينة تميزها عن غيرها، وتدفعها إلى التحقق ولو كان جزئياً..
الملاحظ أنَّ التجربة الإصلاحية الراهنة قد كررت أخطاء التجارب السابقة، ولم تستفد من مميزاتها.. أخذت التجربة الحالية من تجربة محمد علي باشا مفهوم الاحتكار؛
حيث الدولة هي المالك الوحيد، والصانع الوحيد، وهي المتحكم الوحيد في كلِّ شيء! وأخذت من تجربة الخديوي إسماعيل مفهوم الاستدانة غير الرشيدة، والمظهرية غير المبررة.. وأخذت من تجربة الرئيس عبد الناصر غياب الشفافية، إضافة إلى “الغشومية” السياسية.. حاولت التجربة الحالية تكرار تجربة محمد علي دون النظر في ظروف عصره، وحاولت تكرار تجربة إسماعيل دون وجود العناصر التنويرية الرائدة المسهلة لها والمساعدة عليها،
وحاولت تكرار تجربة عبد الناصر دون حضوره الشخصي ومكانته الدولية.. وبالإجمال، فإنَّ التجربة الإصلاحية الحالية محدودة الأفق، وشكلية الغايات والأهداف، وليست لها أسس حضارية تدعمها، أو رصيد فكري يعينها ويقويها.. هي تجربة بلا رؤية؛ مجرد تهويمات وأفكار لا رابط بينها سوى تقليد تجربة بعض الدول الخليجية على الأراضي المصرية،
دون مراعاة لفروقات اقتصادية أو اختلافات حضارية.. لقد أصبحت التجربة الحالية مسخاً؛ مجرد تجميع أو تلفيق لأفكار لا صلة بينها، والمحصلة التي نراها، فقراً مدقعاً، ومعاناة جماعية، وتراجعاً مزرياً في كل مجالات الحياة.
سيدي الرئيس: إنَّ العائق الأكبر في تواصلكم مع الشعب المصري (أو كما تفضلون مناداتهم: يا مصريين!) هو فقدان المصداقية مع النظام وعدم الثقة في مسئوليه.. أصبحنا على حدِّ تعبير فرناندوا أرابال في رسالته إلى الجنرال فرانكو (1971) “نحن جيل المكذبين، لا نثق بأي شيء..
وهكذا، استطعنا إنكار الحقائق البديهية لأنها كانت تلطخ بالأختام (الرسمية)”.. في أيامنا هذه، إذا قالت الحكومة أو وسائل الإعلام الوطنية شيئاً، فالحق هو العكس، والصدق هو في الاتجاه الآخر.. لابدَّ من الاعتراف بأنَّ قنوات الاتصال بين النظام السياسي والجمهور شبه مقطوعة، وبها كثير من التشويش.. وبأن المكلَّفين بتوصيل الرسائل السياسية لا يجيدون التوصيل،
وبأنهم أنفسهم أبرز عوائق التمرير.. والمؤكد أنَّ صياغة الرسائل السياسية أصبحت ركيكة، وإخراج المشهد السياسي بات ضعيفاً وغير مقنع.. والجميع “يؤذن في مالطة”، ولا أحد يسمع، في مشهد عبثي أقرب إلى “حوار الطرشان”! ومن ثمَّ يكون مطلوباً بناء جسور الثقة، ويكون لازماً إعادة قنوات الاتصال الطبيعية.. وبدون ذلك، سنظل نعيش في أزمة حقيقية..
سيدي الرئيس: لعلَّ أبرز ما يمكن ملاحظته في خطاباتكم إلى الشعب هو ما يدور حول مفهوم الدولة وتعريفها.. مفهوم الدولة عُرِف بدقة،
وحُدِدت أبعاده بشكل قاطع منذ أرسطو وربما قبلها (أرض، سكان، نظام حكم/حكومة، سيادة معترف بها)، فأيُّ العناصر كانت تفتقدها الدولة المصرية من وجهة نظركم؟ قلتم إنَّ مصر كانت قبل مجيئكم “شبه دولة”، و”دولة كهن”، وأنهم “قالوا لي خد دي”! وأن ما تقومون به هو محاولة خلق دولة حقيقية.. دون أن تقدموا لنا توصيفاً دقيقاً لماهية هذه الدولة أو تعريفاً محدداً لأبعادها.. ما معالم نظام الحكم الذي تحاولون تثبيته؟
ما فلسفة الحكم التي تحاولون تطبيقها؟ الأمر نفسه ينطبق على مفهوم “الجمهورية الجديدة” التي بشرتمونا بها دون أن تضعوا لها معالم واضحة.. واُخٌتزِلَت مؤخراً في بناء مقرات جديدة للحكم في العاصمة الإدارية!! وفي ظني واعتقادي فإنَّ ما ينقصنا هو طريقة الحكم الرشيد.. وهي طريقة مرهونة بأوامركم، وبرغبتكم الشخصية في التطبيق، وهي السمة الفارقة التي نحتاج إليها..
سيدي الرئيس: إنَّنا نحتاج إلى “كشف حساب” للسنوات العشر الماضية.. كيف تسلَّمنا الدولة بالأرقام وبالمؤشرات الفعلية، وكيف أصبحت؟
الأرقام لا تكذب، والمؤشرات الدولية لا تضلل.. لا نحتاج إلى مؤشرات وصفية/ اسمية Descriptive/Nominal في هذه المرحلة، نحتاج إلى مؤشرات رقمية Numerical (نسبية (Ratio.. كلمات مثل “انجاز يشبه الإعجاز”، وارتفاع “مكانة مصر الدولية”، وغيرها لا تصلح للتقييم ولا للمقارنة.. ما ترتيب اقتصادنا وفق المؤشرات العالمية يوم استلامكم للحكم، وترتيبه الآن؟ ما قوة الجنيه مقارنة بالدولار يوم استلامكم وقوته اليوم؟
ما ترتيبنا على مؤشرات الشفافية، والعدالة، وحرية الصحافة والتعبير، وحقوق الإنسان، نسب البطالة، نسبة انتشار الفقر، جودة التعليم، جودة الخدمات الصحية، جودة الاتصالات وغيرها يوم تسلمكم للحكم، وكيف حالها اليوم؟ هل هناك خطة موقوتة للتزحزح، ولو قليلاً، من ذيل كل هذه المؤشرات على المستوى العالمي؟!
سيدي الرئيس: لا أحد ينازعكم الحكم.. لديكم الشرعية القانونية الكاملة.. ولديكم شرعية الرضا الشعبي باستمراركم في الحكم.. غير أنَّ ما نحتاجه في السنوات القادمة هو شرعية الأداء/ الإنجاز التي تنعكس على الجماهير.. نحتاج أيضاً إلى عقد اجتماعي جديد.. خلال السنوات العشر الماضية لم نكن، نحن المصريين، شركاء في اتخاذ القرار،
ولكننا تحملنا المسئولية كاملة.. وخلالها لم يتم استشارتنا في كل السياسات العامة، ودفعنا ثمنها، وتأثرنا بنتائجها.. وهو نموذج غير مقبول في نظم الحكم المعاصرة No Taxation Without (REAL) Representation.. العقد شريعة المتعاقدين، وكلمة الرجال عقد لا يجوز إنكاره أو التبرؤ منه.. قلتم لنا: “أنا ما وعدتكمش بحاجة” رغم الخطب المطولة، والوعود المسجلة، عن “إغناء الناس”، وعن “حل المشكلات في سنتين”.. هل أخطأنا في فهم كلماتكم على مدار السنوات الماضية؟!
سيدي الرئيس: إنَّ أكثر ما يحتاجه المصريون في هذا التوقيت هو “النموذج” و”القدوة”! غير معقول أن ننصح الناس بعدم الأكل “عشان هي تعيش”، في الوقت الذي نشتري فيه أحدث الطائرات الرئاسية، ونبني أفخم القصور كمقرات للحكم! وغير مقبول أو مبرر أن ندعو الناس إلى التقشف وإلى الصبر وإلى ربط الأحزمة على البطون،
في حين أن حكومتنا والمسئولين يعيشون في بحبوحة لا مثيل لها في أكثر الدول غنى، ويقيمون الاحتفالات الصاخبة، ويخترعون المناسبات الزائفة، وينفقون عليها ببذخ.. قدموا النموذج والمثل على الأقل ظاهرياً، وستكون النتائج مبهرة.. نجح نظام عبد الناصر في إقناع الناس، على خلاف الحقيقة،
بأنَّه لا يأكل سوى “الجبن القريش” و”العيش الناشف”، وبأنَّه لا يملك سوى عدة “بِدَل”، مصنوعة بأيدٍ مصرية، وبأنَّه مات مديوناً لتجهيز إحدى بناته.. لذلك اعتبره المصريون “واحداً منهم”، ولا تزال ذكراه عالية رغم ما أجرمه في حق مصر والمصريين.. في التاريخ المصري نموذجان واضحان يجب التذكير بهما دائماً: خماروية (864- 896 م)،
والخديوي إسماعيل (1830- 1895م).. كان الإنفاق غير المبرر سبباً في الإطاحة بهما وبنظام حكميهما.. على النظام الحالي أن يقدم النموذج والقدرة للشعب، وسوف يجد أنَّ المصريين أكثر التزاماً وتحملاً مما يتصور.
سيدي الرئيس: هل تعلمون لماذا تغنى الشعب بمشروعات عبد الناصر القومية، وضحى من أجلها؟ وينصرف عن المشروعات القومية الحالية ويتمنى البعض منه زوالها ويشمت في أي توقف لها أو عثرة تصيبها؟
لقد صدَّق الشعب أن مشروعات عبد الناصر تصب في صالحه: السد العالي، مصانع الحديد والصلب، الوادي الجديد… في حين أنه لا يشعر بذلك مع المشروعات الحالية: العاصمة الإدارية، المونوريل، شبكة الكباري، مدينة العلمين الجديدة… لقد كانت مشروعات عبد الناصر تصب في جيوب الشعب وبالأخص طبقته المتوسطة بفلاحيه وعماله وطبقة الموظفين الجديدة.. في حين أنَّ المشروعات الحالية تأخذ من جيوب الطبقة المتوسطة،
وتضيف أعباءً عليهم ما كانوا ليقبلونها لو كان الأمر لهم، ولو كانوا في موضع اتخاذ القرار.. لقد جاءتنا حكومات ثورة 30 يونيو ببضاعة مزجاة، وطلبوا من الشعب أن يوفي لها الكيل، وأن يتصدق عليها.. لقد اشترت هذه الحكومات رضا المصريين بثمن بخس، وكانوا فيه من الزاهدين.. وبادلهم الشعب زهداً بزهد، وبسخط “يوشك أن يكون له ضرام” .. ويحتاج إلى عقلاء قوم يخففون من حدته، ويقللون من درجة اشتعاله.
سيدي الرئيس: نحن نعيش في حالة إحباطات ناتجة عن ثورة توقعات عالية.. في كل مرة يُمني الشعب نفسه بتغييرات حقيقية في المسئولين، وبتعديلات جوهرية في طريقة الحكم.. تصل التوقعات إلى عنان السماء،
ثم تأتي الوقائع والتعيينات لتخسف بنا الأرض وتقذفنا إلى الدرك الأسفل.. هل عدمت مصر الكفاءات القادرة على انتشالها من أزمتها الحالية؟ لماذا ترضون الدنية في اختيار المسئولين عنا؟ كيف يتم اختيار الوزراء والمحافظين؟ الاختيار قرارات سيادية لكم مطلق الحرية فيها،
غير أن النتائج تعود علينا بالسلب.. ماذا رأيتم في الدكتور مصطفى مدبولي حتى تعيدوا اختياره رئيساً لمجلس الوزراء؟ ما قامت به حكومته خلال السنوات الست الماضية لا يؤهلها لإعادة التكليف! المؤكد أن الصورة لديكم أكثر اتساعاً، والمعلومات لديكم أكثر دقة، غير أن نتائج استمرار هذه الحكومة يقع علينا.. صدم كثير منا إعادة تكليف الدكتور مدبولي، وصدمتنا كانت أكبر في اختياراته غير الموفقة لكثير من الوزراء الجدد.. ليس من الحكمة يا سيدي فعل الشيء نفسه مرتين بالاسلوب نفسه،
وبالخطوات ذاتها، وانتظار نتائج مختلفة”، ونحن لا نتوقع نتائج جديدة ونحن نكرر تجربة الحكومة السابقة بكل إجراءاتها الفاشلة، وبكل أخطائها القديمة! إن النجاح الوحيد الذي حققته حكومة الدكتور مدبولي أنَّها وحَّدت جميع طوائف المصريين في الدعاء عليها: “ودعا عليك الله في محرابه: الشيخ والقسيس والحاخام”!
سيدي الرئيس: هل أصبحنا عبئاً عليكم بالدرجة ذاتها التي أصبحت حكومتكم عبئاً علينا؟ النفور بيننا وبين الحكومة أصبح متبادلاً، ومساحة الاختلاف بات من الصعب تجاوزها أو تجسيرها؟
لماذا وصلنا إلى هذه الدرجة؟ وكيف سنستمر فيها؟ قلتم لنا في بداية حكمكم: “لو حسيت إنكم مش عايزني هسيب الحكم”.. والشعب قال كلمته واختاركم في انتخابات حرة ونزيهة، ولكن هذا الشعب يكره كثيراً من السياسات العامة لهذه المرحلة،
ولا يرحب بكثير من التوجهات الاقتصادية.. هذا الشعب (لا يفرق) معه ولا يهتم بخصائص من يحكمه قدر اهتمامه بالسياسات التي يتبناها الحاكم.. قالها مكيافيللي في نصيحته للأمير “لورينزو دي ميديشي” “إنهم قد يسامحونك لو قتلت آباءهم، ولكنهم لن يسامحونك لو أخذت أموالهم” … وحكوماتنا سرقت من الناس حلمهم المشروع وحقهم الأصيل في العيش الكريم.. الأصل في الحياة الإنسانية: الطعام والأمن “الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف”.. بتنا نخاف من سياسات الحكومة أكثر مما نخاف من أعدائنا (اللهم اكفني شر أصدقائي،
أما أعدائي فأنا كفيل بهم)، وبتنا نجوع في بلد أطعم العالم في سنوات حكم طاغية (ملك يوسف كان من الهكسوس) بسبب سياسات لم تراع أولويات الإنفاق، ولم تراع اهتمامات شعبها وحقوقهم المشروعة.. لقد قلتم لنا (28 أكتوبر 2023) “إحنا نقعد نقول إحنا بنعمل وبنعمل، طب لو بنعمل كل حاجة صح أومال حالنا كدة ليه”؟ ونحن نسأل: إذا كانت ما قامت به حكومات ما بعد ثورة 30 يونيو صحيحاً، فلماذا حالنا بهذا السوء الذي لا يخفى على أحد؟!
سيدي الرئيس.. قبل توليكم السلطة، وقيامكم بثورة ٣٠ يونيو، “كشفت (مصر) كتفها، وعرت ضهرها”.. في السنوات الأخيرة، خلعت مصر ما تبقى لها من ملابسها،
وتخلت عن بعض متعلقاتها الشخصية.. “هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه”.. وكل من تملك مقاليد أموره، أذاقه العذاب ضعفين، انتقاماً منه، وتعالياً عليه.. كل من حكمه خلال القرنين الماضيين شارك في خداعه، واشترك في تضليله.. خطابات (المُحن) بدأت مع محمد علي باشا تقرباً من الأعيان الذين طالبوا بتعيينه والياً عليهم، مروراً بعبد الناصر الذي بدأ مسيرته بقوله “دمي فداء لكم”، وانتهى إلى استحلاله دم المصريين في يونيو 1967 وجعله دم الشعب فداء له.. والسادات كبير العائلة الذي التجأ إلى “قانون العيب” ليحمي أخلاق قريته، وأطلق سراح الإخوان على جموع المصريين فقتلوهم وقتلوه.. ومبارك الذي حفظ مصر في الثلاجة، وجمدها حتى فقدت قيمتها، فجمَّدوه ما تبقى له من سنوات .. ثم ابتلانا القدر برئيس غير مؤهل تقوده جماعته، فرق شملنا، وجمعنا على كراهية حكمه، ورحل.. ثم جئتم مثل البشارة، وكنتم الأمل، والبطل، والمثال.. واستبشرنا خيراً بكم.. غير أنكم وبعد وقت قصير من توليكم الحكم حاولتم “أن تحصلوا على شعبية عبد الناصر بسياسات إسماعيل صدقي” على حد تعبير الأستاذ هيكل، وعندها كنا كمن نحرث في البحر، وكالمنبت، لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، وأصابنا اليأس والإحباط، وفقدنا الأمل في ظهور من يحنو علينا!
سيدي الرئيس .. هل هذه هي الفترة الأخيرة لكم في الحكم بحكم الدستور؟ أم أن هناك نية لتعديل الدستور لفتح المجال لفترات أخرى؟
قالها أحد مذيعي التليفزيون المحسوبين على النظام عشية إعلان فوزكم في الانتخابات “يجب أن نستعد لإجراءات تعديل الدستور بما يسمح بفترة جديدة للرئيس”.. ما أتمناه حباً لكم وخوفاً عليكم من المساءلة القاسية أمام التاريخ هو أن نبدأ من الآن في بحث كيفية انتقال السلطة السلس والشرعي والقانوني بعد ست سنوات.. نحتاج إلى تمهيد التربة السياسية، وإلى إتاحة الفرصة لمن لديه مشروع سياسي متكامل بعرضه على الشعب وعلى مناقشته في فترات زمنية كافية.. ليس من الحكمة ملاحقة المعارضين وإيداعهم السجن، حتى ولو كانت المبررات قانونية.. وليس من صالح مستقبل هذه البلاد أن نشيع الخوف في نفوس الحالمين بغد أفضل.. نحتاج إلى رفع الوصاية عن هذا الشعب.. قولنا إن “هذا الشعب غير جاهز للديمقراطية الكاملة” سوء تقدير لنا جميعاً، وحكم خاطىء عانينا من تبعاته خلال العقود الأخيرة.. نحتاج إلى فتح المجال العام، وتوسيع هامش الحرية الإعلامية.. نحن في المرتبة 170 عالمياً في مؤشر حرية الصحافة والإعلام، وهي مرتبة لا تليق بمصر التاريخية، ومرتبة نستحق أفضل منها في وقتنا الحالي.
سيدي الرئيس.. مقارنات عديدة تجرى بين أحوال المصريين في السنوات الأخيرة، والسنوات السابقة عليها، وكلها ليست في صالح السنوات الأخيرة.. بدأ الناس في الترحم على عهود سابقة كانت تكرهها، وقامت بالثورة عليها “رب يوم بكيت منه فلما .. صرت في غيره بكيت عليه”.
. إن هدف الحكم الرشيد هو تحقيق الرفاة للمواطنين، ومساعدتهم على التغلب على مشاكل الحياة.. غير أن ما نشاهده هو أن معاناة الناس زادت، واعباؤهم كثرت، والضرائب التي فرضت عليهم وصلت إلى مدى لم تصل إليه من قبل.. وهي حالة ليست في صالحنا، نحن المؤيدين لنظام الحكم الحالي، وليست في صالح نظام الحكم ذاته، بل إنها قد تنذر بنهايته إذا لم يجد الناس حلاً، وعلى حدّ تعبير ابن خلدون:”إذا كثرت الجباية، أشرفت الدولة على النهاية”.
سيدي الرئيس: هل تعلمون لماذا اختاركم الشعب بالإجماع في الانتخابات الرئاسية الأخيرة رغم ضيق سبل العيش، وتردي الأحوال، وانخفاض مستوى الحياة؟ لأنَّ الشعب يؤمن بأنَّ “من صنع المأساة ينهيها”.. خرج الشعب في أعقاب هزيمة 1967 وتنحي عبد الناصر تحميلاً له بالمسئولية،
وتكليفاً له بإصلاح ما أفسد.. وكذلك فعل الشعب في الانتخابات الأخيرة.. انتخاب الشعب لكم لم يكن عن رضا عن الأداء الحكومي أو عن إعجاب بالسياسات العامة، وإنَّما عن شعور بأنَّ هذا النظام مسؤول عما وصلنا إليه من تردٍ في الأحوال المعيشية، ومسؤول عن غياب مفهوم الدولة الحقيقي، رغم الشعارات المرفوعة بتدعيم أركان الجمهورية الجديدة.. لقد اختار الشعب أنْ يصحح الأخطاء مَنْ كان مسئولاً عنها!
سيدي الرئيس.. المصريون معكم، يساندونكم، ويقدِّرون ما قمتم به.. وهم على استعداد لتحمل المزيد لو وجدوا أنَّ هناك تصحيحاً جدّيّاً للأوضاع، وتغييراً حقيقياً في السياسات.. المصريون يشعرون بأنَّ هناك انفصالاً معيشياً، ووجدانياً، ومكانياً بينهم وبين المسئولين، وبينهم وبين الأجهزة المكلفة بخدمتهم..
المصريون يشعرون بعزلتهم في وطنهم، وبالتمييز ضدهم في بلدهم.. ورغم ذلك، فإنَّهم يعتقدون في أنَّ أمامهم ست سنوات يستطيعون خلالها أنْ يصنعوا المعجزات، وأنْ يقفزوا على كل الصعوبات.. المهم أنْ يكون ذلك بطرق صحيحة، وبأساليب علمية مجرَّبة، وبدراسات جدوى حقيقية، وليس اعتماداً على الرؤى الشخصية الفردية مهما كان صاحبها، وباختيار الأشخاص المناسبين لكل موقع.. كفانا تقريباً لأهل الولاءات! وكفانا إبعاداً للكفاءات..
سيدي الرئيس: مراجعة السياسات ضرورة، وتصحيح الأخطاء فرض، ومصالحة الشعب إلزام، ومصارحة المصريين بالحقيقة،
ولو كانت مُرَّة، لا مناص منها.. إنَّها الفرصة الأخيرة لنا، نحن المصريين، في عبور الهزيمة، والانتقال إلى المكانة التي تليق بنا، ونستحقها.. وإلا، فسوف نعيش في تيهٍ عظيم لعدة عقود قادمة..
سيدي الرئيس: نحن على ثقة كبيرة بكم، ونجدد العهد لكم، والولاء لمصرنا الحبيبة.
اللهَّم هل بلَّغتُ، اللهَّم فاشهد.