ارتبط تعبير النكبة في مصر على مدى عقود بنكبة أو نكسة 5 حزيران/ يونيو 1967، لكن نكبة أخرى حدثت في الشهر ذاته بعد 46 عاما وهي نكبة 30 يونيو 2013، وبينما كانت النكبة الأولى عسكرية لكن حصادها المر لا يزال قائما بعد تلك العقود،
فإن النكبة الثانية كانت سياسية وحصادها المر لا يزال يتوالى ويشعر به من شارك فيها ومن واجهها، ومن وقف متفرجا عليها.
لا أنكر أن بعضا ممن شاركوا في مظاهرات 30 يونيو شاركوا بحسن نية، وكان مطلبهم انتخابات رئاسية مبكرة، لكن الكثيرين يدركون الآن أن تلك المظاهرات في مجملها لم تكن حسنة النية،
ولم تكن مظاهرات عفوية، بل تمت بترتيبات وُضعت بإحكام في غرفة عمليات الثورة المضادة التي أدارتها الأجهزة الأمنية بالتعاون مع الدول المرتعبة من الديمقراطية في المنطقة،
وعلى رأسها الكيان الصهيوني وبعض الدول الخليجية. وقد توالت اعترافات واعتذارات الكثيرين عن ابتلاعهم لتلك الخدعة، لكن آخرين لا يزال يركبهم الكبر، والغطرسة السياسية رغم أنهم يئنون من حصادها المر.
الحصاد المر لتلك العشرية السوداء لا يفرق بين مؤيد أو معارض للنظام، ديون خارجية ارتفعت من 43 مليار دولار إلى 168 مليار دولار بنهاية العام 2023، بخلاف الديون الجديدة التي دخلت منذ بداية العام والتي ستدخل خلال الفترة المقبلة، بما جعل كل مصري حتى لو كان طفلا رضيعا؛ مكبلا حتى الآن بألفي دولار ديونا لا علاقة له بها.
ويبدو أن حزمة المساعدات السخية (وبعضها ديون جديدة) التي هبطت على مصر بعد طوفان الأقصى، وأحدثها من الاتحاد الأوروبي لم تشبع نهم النظام لمزيد من الديون، لقد أصبح الاقتصاد المصري مثل مريض سرطان الدم الذي لا يرتوي من أكياس الدم التي تنقل إليه مهما زادت كمياتها.
إلى جانب الديون الخارجية ومثيلتها الداخلية التي تتجاوز 8 تريليونات جنيه، فإن معدلات الفقر زادت خلال هذه العشرية ليصبح ثلثا المصريين إما تحت خط الفقر أو يقتربون منه، كما انهار الجنيه من 6 جنيهات مقابل الدولار إلى 50 جنيها للدولار في الوقت الحالي،
وكان قد وصل إلى 70 جنيها في بعض الفترات، ومعه تضاعفت أسعار السلع والخدمات، وخاصة مع رفع ما تبقى من دعم للسلع الرئيسية، وارتفاع سعر رغيف الخبز مؤخرا بنسبة 300 في المئة دفعة واحدة مع انخفاض وزنه، وتغير شكله.
وأحدث الكوارث هي انقطاع الكهرباء لساعات طويلة تبدأ بثلاث ساعات وتصل إلى نصف يوم في بعض الأماكن، بسبب الفشل في توفير الوقود اللازم لمحطات توليد الكهرباء.
قبل الديون والفقر والخبز فإن آلاف المصريين قضوا نحبهم دفاعا عن حرية الشعب أو عن سيادة الوطن خلال هذه العشرية السوداء، وعشرات الآلاف أيضا يقبعون في سجون لتمسكهم بحقهم في الحرية والكرامة والعدالة،
ولرفضهم الظلم والاستبداد والفساد، وكثير من هؤلاء يتساقطون يوميا في تلك السجون تحت التعذيب المادي أو المعنوي أو افتقاد الرعاية الصحية.
لم تعد السجون وأماكن الاحتجاز قصرا أو حصرا على فريق واحد، بل إنها تضم بين جنباتها الإسلامي إلى جانب العلماني والليبرالي إلى جانب اليساري،
والمسلم إلى جانب المسيحي، كما تضم الرجال والنساء وحتى الأطفال، وهو الأمر الذي يتكرر في المنافي القسرية التي تضم كل أطياف المعارضة المصرية والتي “تزغلل” عيون الكثير من المصريين الراغبين في الهجرة”الطوعية” هربا من القهر، والفقر، وبحثا عن حياة أفضل.
سيادة الوطن تعرضت بدورها لضربات موجعة، لقد فقد جزيرتين (تيران وصنافير) جرت بسببهما حرب ضروس (يونيو 1967) وسالت عليهما دماء شهداء كرام،
كما فقدت مصر حصتها التاريخية في مياه النيل، بعد السماح لإثيوبيا ببناء سد النهضة وتشغيله دونما تنسيق مشترك. لم يكن بوسع إثيوبيا أن تجمع التمويلات الدولية اللازمة لبناء السد (المختلف عليه) لولا توقيع السيسي على إعلان المبادئ الذي أنهى ذلك الخلاف وفتح الباب بالتالي للممولين، وكان منهم حلفاء للسيسي نفسه.
وأحدث الانتهاكات للسيادة المصرية هي اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي لممر فيلادلفيا الذي أعلنه السيسي خطا أحمر، بل وتدميرها للجانب الفلسطيني من معبر رفح، وإقامة حدود جديدة دونما اتفاق رسمي مع مصر.
الحصاد المر لا تخطئه عين، ولا ينكره عاقل، ويبقى المطلوب هو البحث عن علاج. ولا نقصد هنا تقديم نصائح عاجلة لحل المشكلات والأزمات التي صنعها النظام،
فتلك الوصفات لا قيمة لها مع استمرار هذا النظام الذي سينتج المزيد من الأزمات، لكن العلاج الصحيح هو استئصال أصل المرض والذي هو النظام نفسه، وهذا ما يحتاج علاجا أكثر مرارة بحكم استعصاء المرض.
نحن نتابع كغيرنا شعوبا دافعت عن حريتها وكرامتها، وانتفضت في مواجهة من حاولوا السطو على إرادتها، كما حدث في تركيا ومن بعدها في كينيا وبوليفيا،
ولسنا أقل من تلك الشعوب توقا للحرية والكرامة، ولا أقل منها استحقاقا للتنمية والازدهار، لكن تحقيق ذلك يستلزم توحيدا للصف، وتحديدا للهدف، وتجنيبا للخلافات،
وتحشيدا للجهود، وتجهيزا لخطط ومشروعات الإنقاذ، وتحضيرا لقيادة موحدة، ومعبرة عن هموم وتطلعات الشعب، وممثلة لاتجاهاته الرئيسية، وساعتها ستكون ساعة الخلاص أقرب مما يتصور الكثيرون.