مقالات ورأى

جمال سلطان يكتب: حقائق وأوهام في أحداث 30 يونيه 2013

سواء كنت على يسار ذلك اليوم ، رافضا له، أو على يمينه ، من مؤيديه، أصبح يوم 30 يونيه 2013، يوما تاريخيا لا يمحى من ذاكرة المصريين، بالنظر إلى التوابع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية والحقوقية التي ترتبت عليه، وما زلنا نواجهها ـ أو ندفع ثمنها ـ حتى اليوم، بطبيعة الحال ستجد من ينظر إليه على أنه يوم إنقاذ مصر من حكم الإخوان، ومن ينظر إليه على أنه يوم الانقلاب على ثورة يناير والرئيس الشرعي المنتخب، لكن في كلا الحالتين، وعند الطرفين، سيظل هذا اليوم محفورا في الذاكرة الوطنية.

محاولة التقليل من حجم المظاهرات التي شهدها هذا اليوم هو وهم وخطأ، فأبناء ذلك الجيل وتلك المرحلة شاهدوا بأعينهم الأعداد الضخمة التي تم احتشادها ـ أو حشدها ـ في الميادين الكبرى في القاهرة ومحافظات أخرى، إما من قبل كارهي جماعة الإخوان أيديولوجيا، أو القلقين من سيطرتها على الحكم وما وصفوه”سرقتها” لحصاد الثورة بفضل تنظيمها الجيد حسب تلك الرؤية، أو من قبل عوام من المصريين ساءهم اضطراب أحوال البلاد، وكثرة الهرج فيها، وضيق العيش بسبب شح الوقود واضطراب الأمن وتردي البنية الأساسية التي كان من أهم مظاهرها انقطاع الكهرباء المتكرر لفترات طويلة، أضف لهؤلاء وأولئك أنصار المنظومة القديمة لعهد مبارك الذين ضاعت مصالحهم بفعل ثورة يناير، والذين يطمعون في استعادة نفوذهم ومصالحهم الضائعة .

لكن الحديث عن ثلاثين مليون متظاهر نزلوا في الميادين ذلك اليوم هو وهم بل خرافة، والتقارير الدولية تجعل العدد دون المليون ـ 800 ألف ـ، كذلك القول أن هذا الحشد الكبير كان عفويا، وبدون ترتيب من أجهزة رسمية سيادية وغير سيادية، هو وهم أيضا وتضليل، فقد تواترت الأدلة على أن هذا اليوم تم بترتيب المخابرات العسكرية، وبإشراف قيادات كبيرة في الجيش، كما جرى بتمويل دولي ضخم من الامارات تحديدا، وأن الحشد الجماهيري كان جزءا من التخطيط للانقلاب العسكري الذي جرى بعده بثلاثة أيام، حيث استخدمت تلك المظاهرات غطاء لتحرك الدبابات وقفز العسكريين على السلطة التي هربت من أيديهم ـ بصورة أو بأخرى ـ بعد ثورة يناير 2011 .

هل ما جرى في 30 يونيه ثورة؟ هذا أيضا من الأوهام الشائعة، وأظن أن وصفها بذلك تقلص كثيرا مع الوقت، بعد أن بان للأعمى أنها كانت مجرد قنابل دخان للتمهيد للانقلاب العسكري أو لتبرير سيطرة العسكريين على السلطة، ولم يعد يردد حكاية الثورة إلا لجان الأنظمة الأمنية والمؤسسات الرسمية الخاضعة للسلطة العسكرية، ولا يوجد في التاريخ ثورة تتم في أربع أو خمس ساعات ، بعد الظهر إلى المغرب، في أجواء رومانسية حالمة وراقصة، برعاية وحماية طائرات الجيش، ومدرعات الشرطة، وتوزيع الجيش والشرطة المشروبات والأعلام على المتظاهرين، ورقص بعضهم معهم، وارتداء ضباط تي شيرتات حركة تمرد التي أدارتها المخابرات الحربية ومولتها الامارات كما تبين بالوثائق والمعلومات بعد ذلك، ولو تكررت احتجاجات 30 يونيه ألف مرة ما كانت لتسقط نظام حكم، وقد تكررت في تركيا وفشلت، بل تكررت في أمريكا نفسها في أعقاب فوز ترامب بالرئاسة، الفارق في مصر أن الجيش هو المخطط لها وهو الذي تدخل لتوظيفها، بل الجيش نسق العملية كلها قبل أشهر طويلة، وبالتالي كنا أمام حالة غضب شعبي حقيقي، استثمرها العسكر لتحقيق مخططهم في القفز على السلطة .

هناك فائز واحد في أحداث 30 يونيه، وهو العسكر، بل تحديدا الفريق عبد الفتاح السيسي، الذي تخلص من كل شركائه في العملية بعد ذلك، مدنيين وعسكريين، لكن من الخاسر فيها؟ واهم من يتصور أن الإخوان وحدهم الذين خسروا ، ربما كانت خسارتهم هي الأكبر ، بالنظر إلى حجم القمع والملاحقة التي تمت لقياداتهم وكوادرهم بعد ذلك، وبالنظر إلى أن السلطة كانت بيدهم فعليا، ولكن الحقيقة أن كل القوى المعارضة خسرت، وكل الأحزاب والمنظمات خسرت، من كان مع الإخوان أو ضدهم، الجميع تعرض للقمع بعد ذلك والتهميش ثم البطش، وسجن وقتل أعداد كبيرة ممن كانوا يتظاهرون ضد الإخوان في 30 يونيه، عندما حاولوا التصدي للانقلاب العسكري بعد ذلك.

من المخطئ في الحساب السياسي لذلك اليوم؟ أيضا هناك أوهام متعددة هنا، فالإخوان يرون جبهة الإنقاذ والمعارضة هم الذين أخطأوا بل أجرموا في حق ثورة يناير وفي حق المسار الديمقراطي والشرعية الدستورية الجديدة، والمعارضة تحمل الإخوان المسؤولية عما آلت إليه الأمور لسوء إدارة المرحلة، والانفراد بإدارة الدولة، وإثارة الفزع والخوف من تصريحات تهدد بالبطش، أو الممارسات التي تعتدي على الدستور، والتحالف مع القيادة العسكرية بزعامة السيسي لمواجهة المعارضة.

والحقيقة أن الطرفين أخطأوا أخطاء فادحة في حق الثورة وفي حق الديمقراطية، ويدهشك أن خطأ الطرفين كان مشتركا، كان في موقفهما من الجيش، فكلاهما راهن على العسكر، جبهة الإنقاذ والمعارضة راهنت على أن الجيش سينحاز إليهم ضد أطماع الإخوان كما انحاز في 2011 ضد مشروع التوريث، والإخوان راهنوا على أن الجيش سينحاز إليهم باعتبارهم الشرعية وأن الجيش كما احترم الانتخابات ووصول مرسي للسلطة فإنه سيحترم ويحمي حكمه، وبطبيعة الأحوال كشفت الأيام أن كلا الطرفين كان واهما، ومخدوعا، وأن العسكر نجحوا في خداع الطرفين وتخديرهم، كانوا يسمعون كل طرف ما يشتهي سماعه، ثم ركبوا على أكتاف الاثنين للوصول إلى السلطة في النهاية بانقلاب 3 يوليو.

إن أي مراجعة لما جرى في مصر طوال أحداث ثورة يناير وحتى الانقلاب العسكري، لا بد أن تجيب بشجاعة على سؤال : كيف نجح السيسي، بهذا الأداء المتواضع الذي نسخر منه جميعا الآن، في التلاعب بالجميع، سياسيين وعسكر، إسلاميين ويسار وليبراليين وشباب الثورة ايضا، من فبراير 2011 حتى يوليو 2013، ويضرب الجميع بالجميع، ثم يزيح الجميع، ليصل وحده إلى هدفه بالسيطرة الكاملة المحكمة على السلطة ؟

هل كان يمكن تفادي ما جرى في 30 يونيه وما بعدها؟ نعم بالقطع كان يمكن تفاديه، فالخلاف بين القوى السياسية طبيعي، وفي أي بلد ديمقراطي في العالم ستقابل هذا الانقسام بدرجات متفاوتة من التوتر، كان يمكن تفادي ما جرى في مصر إذا توفر الحد الأدنى من الثقة بين الأطراف المتصارعة، وهو ما عملت المخابرات المصرية على تدميره في عملية التواصل المزدوج بكلا الطرفين، لتعزيز الانقسام وترسيخ الشكوك، وطمأنة كل طرف على أمانيه وأحلامه!، وأذكر أني قابلت ناشطا يساريا كبيرا، كان عضوا بمجلس نقابة الصحفيين، قبل مظاهرات يونيه بأسبوع، وسألته عن سبب عصبيته وتوتره ، فقال لي حرفيا : إذا فشلنا في 30 يونيه الإخوان ها يفشخونا !! ، من الذي أوصل هذا الانطباع لقيادي يساري له خبرة ليست قصيرة في العمل السياسي والنقابي؟ إنها دسائس الأجهزة وما كان يجري في الخفاء، وأيضا أخطاء الإخوان التي فشلت في تفكيك هذه المخاوف وفضح الدسائس وتكثيف رسائل الطمأنة والشراكة لدى الأطراف الأخرى .

كان يمكن تفادي ما جرى لو أن كل الأطراف استوعبت دروس الماضي، دروس التاريخ، فكلا الطرفين رحب بالانقلاب العسكري الأول في يوليو 1952، الإخوان والقوى اليسارية والليبرالية، جميعهم رحبوا بالعسكر، جميعهم دعموا العسكر، ظنا أن العسكر سيعودون للثكنات بعد ذلك، ويكونون هم أصحاب الحظ والتمكين في المرحلة الجديدة، وكأن الجيوش جمعيات حقوقية تخوض مخاطر الانقلاب من أجل أن تهدي السلطة لقوة مدنية جديدة، لم يتعظ الطرفان مما جرى، ووقعوا في الفخ من جديد، وبنفس الطريقة، كما الحافر على الحافر .

كان يمكن تفادي ما جرى إذا أدرك الطرفان أن مصر في مرحلة ثورة، والشارع قلق وغاضب، ولا يعجبه شيء، وينتظر الكثير، وسقف الطموحات إلى عنان السماء، وأنها مرحلة لا يقبل فيها أي طرف أن ينفرد طرف وحده بثمارها ويؤسس لمشروعه على تضحياتهم، كانت مرحلة تحتاج إلى شراكة، إلى توافق، من أجل مواجهة الخطر الأعظم، خطر الانقلاب العسكري، خطر شهوة العسكر للسلطة، لكن المؤسف أن الطرفين وقعا في فخ بدائي ساذج، فكلاهما كان يتصور أن الطرف المدني الآخر هو الخطر عليه، الإخوان تصوروا أن الخطر عليهم وعلى الثورة هم جبهة الإنقاذ والبرادعي وحمدين، والإنقاذ تصوروا أن الخطر على الثورة وعليهم هم الإخوان، وكان ذلك وهما عجيبا من الطرفين، لأن الخطر الحقيقي والداهم على الاثنين وعلى الثورة معهما هم العسكر المتربصون والذين وضعوا أيديهم على أجهزة الدولة الصلبة والمخابرات .

كان يمكن تفادي ما جرى إذا امتلك الدكتور مرسي الخبرة السياسية الكافية بالمنصب الرفيع التي تتيح له اتخاذ قرارات سريعة وجريئة، تربك معسكر الانقلابيين، وتبعث الأمل لدى المعارضين، وتفكك التحضيرات الخطيرة التي كانت تجري لإسقاطه، كان يمكنه إقالة رئيس الوزراء، وتكليف شخصية سياسية معارضة مجمع عليها برئاسة الوزارة، لم يكن منطقيا ولا مفهوما تمسكه بشخصية ضعيفة مثل هشام قنديل حتى آخر ساعة من حكمه وسط كل هذه الأعاصير السياسية، كان يمكنه أن يعلن للشعب اتخاذ قرار بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، أو عزل قائد الجيش ورئيس الأركان والمخابرات والحرس الجمهوري، وقد فعلها من قبل، أو الخروج إلى الشعب بحديث مكاشفة كاملة عما يجري في الغرف المغلقة، باختصار، كان “رئيس الجمهورية” يملك أدوات كثيرة لخلط الأمور، وإرباك تحالف الشر، وهدم المعبد على رؤوس المتآمرين، لكن الخبرة لم تسعفه، كما أن الحسابات التنظيمية كانت معقدة ومكبلة له، إضافة إلى الثقة المفرطة “الغامضة” ـ والتي طالت ـ بالفريق عبد الفتاح السيسي وولائه له .

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى