(اللعب بأمر الحكم)
سقط اللاعب على الأرض مصابا، لكن الحكم لم يصفر لإيقاف المباراة، واستمر الفريق المنافس في اللعب في محاولة لإحراز هدف..
صافرات الجمهور تدوي في المدرجات كبديل شعبي لصافرة الحكم، لكن الحكم لا يهتم واللاعبون يواصلون الهجوم..
بعض اللاعبين من الفريقين يشعرون بالقلق وينظرون ناحية اللاعب الملقى على أرضية الملعب، ويتوجه بعضهم بالفعل ناحية اللاعب للاطمئنان عليه، تاركين الحكم والمباراة الدائرة برغم استهجان الجماهير..
فجأة ينقطع التيار الكهربائي عن أحد الكشافات في جانب الملعب.. يزداد الصفير والاستهجان، ويظهر الارتباك على الحكم، الذي يحاول التظاهر بأن كل شيء طبيعي في إطار القانون، وليس هناك خطر يدعو لإيقاف المباراة، فاللاعبون قي العادة يلجأون إلى ادعاء الإصابة لتعطيل اللعب، وتضييع الوقت، وحرمان الفريق المنافس من الاستفادة من فورة تفوقه في الهجوم!
ينطفئ كشاف إضاءة آخر فيضطر المعلق للحديث عن وجود أزمة، ويتساءل عن قرار الحكم، ويسترسل في الحديث عن مواقف مماثلة حدثت في مباريات سابقة في أنحاء العالم ومواقف الحكام فيها..
يسوء الوضع في الملعب وفي مدرجات الجمهور معا، لكنّ الحكم وعددا من اللاعبين يواصلون اللعب.. الحكم ينظر إلى ما يحدث باعتبارها مشاكل عادية بسيطة لا تستدعي إيقاف المباراة، واللاعبون المستمرون في اللعب لا يفكرون أبعد من الغرض المباشر للعبة: نحن لسنا فلاسفة ولا أصحاب موعظة ولا جماعات حقوقية للرحمة ونشر الأخلاق.. نحن ماكينات مهمتها استغلال الفرص لإحراز الأهداف، ليس من واجبنا أن نفكر، واجبنا الأساسي أن نلعب حسب صفارة الحكم، فما دام الحكم لم يطلق صافرته لإيقاف اللعب، فمن الخطأ إهدار فرصة الهجوم والوقوف للتعامل مع ما يحدث من مشاكل جانبية في الملعب أو مدرجات الجمهور.
(جون كبير)
لا أحد يعرف بالضبط ماذا حدث في المباراة، فالملعب تحول إلى ساحة شبه مظلمة، واللاعبون منقسمون بعضهم توقف تماما للاطمئنان على حياة الزميل المصاب، وبعضهم ينخرط في اللعب بشكل طبيعي غير مكترث بما يحدث حوله، وبعضهم وقف يتفرج، ويتعامل بشكل سلبي مع اللعب ومع الأحداث الدائرة بانتظار التطورات التي ستصل إليها الأمور، وأصوات التعليق تعلو وتتداخل مع بعضها: جون كبير.. احنا جبنا جون كبير!.. جون إيه بي وكبير إيه؟.. شوفوا الراجل اللي واقع يكون بلع لسانه أو حياته في خطر.. الحكم ده بيعمل إيه واللعب ده مستمر ازاي في الظروف دي؟..
خبير في استوديو التحليل بعد المباراة يتحدث عن واجب الحكم في حماية حياة اللاعبين، وفي حالة سقوط لاعب بطريقة تدعو للقلق، لا بد من إيقاف المباراة، حتى لو كانت هناك شبهة تمثيل وادعاء إصابة، كذلك الحال لا بد من إيقاف اللعب في حالة الإخلال بالبيئة المناسبة للمباراة؛ من إضاءة وأمن وعدم وجود أشخاص غير اللاعبين على أرضية الملعب، والالتزام بوجود كرة واحدة داخل المستطيل الأخضر.. إلخ.
(نعيش أولا ثم نلعب)
يحكى أن أحد قادة الحروب الصليبية جاء من أوروبا للسيطرة على بيت المقدس، فتصدى له حاكم مصر في ذلك الوقت (صلاح الدين الأيوبي)، وحدث أن الفارس الصليبي (أو أحد مساعديه) أصيب بمرض خطير أثار القلق والارتباك في معسكر الأعداء، وشعر القائد العربي أن المباراة لا يصح أن تستمر قبل علاج اللاعب المنافس، سواء كان المصاب هو ريتشارد قلب الأسد نفسه أو أحد من فريقه، لأن الحدث يؤثر بشكل ما على نزاهة النصر..
والعبرة أن كل مباراة (وكل منافسة) تحتاج شروطا معيشية يجب أن تتوفر، وبعدها يمكن الحديث عن اللعب (أو الصراع أو الحرب).. أما إذا غابت شروط المعيشة وتضررت البيئة الآمنة، فإن المباراة يجب أن تتوقف.. لا يحق لقانون (أو حكم) أن يتحدث عن أهداف او إنجازات أو انتصارات، إذا تمت في ظل حالة من الارتباك تفتقد الشروط المعيشية والأمنية المناسبة لسلامة اللاعبين وسلامة البيئة التي يؤدون فيها أدوارهم.
(أزمة مباراة القمة)
فاز النادي الأهلي بهدفين (لم يحرزهما) مقابل صفر لفريق الزمالك الذي انسحب من المباراة احتجاجا على عدم توفير البيئة المناسبة للمنافسة النزيهة، من وجهة نظر مجلس إدارته، وأنا لا أسوق هذا المثال لتقييم قرار نادي الزمالك، أو الجهة المنظمة، أو التعامل الانتقائي مع بنود اللائحة التي سمحت باحتساب الفوز بـ”جون كبير” للنادي الأهلي، بينما لم تسمح بتنفيذ عقوبات قاسية أخرى على ذلك؛ منها حرمانه من استكمال المسابقة وهبوطه إلى مستوى أدنى من المسابقات، وذلك بذريعة أن الزمالك ركن من أركان اللعبة والتضحية به يضر باللعبة نفسها..
والسؤال: إذا كانت للزمالك هذه المكانة التي تعترف الجهة المنظمة بأنها مكانة بنيوية ووجودية ترتبط بوجود اللعبة نفسها، فلماذا لم يتم التعامل مع وجهات نظر “الفريق المعارض” بما يتناسب مع هذه المكانة، سعيا إلى تحقيق مطالبه بتوفير شروط منافسة متكافئة بشرف؟
(أنا مش سياسي)
لست كرويا، ولم أكن أقصد منذ البداية مناقشة مشاكل كرة القدم في مصر، المغزى أنني أردت الكتابة بأسلوب “غير سياسي” عن أزمات معيشية انزلقت إليها مصر، للدرجة التي أفسدت شروط استكمال لعبة الحكم والسياسة بنزاهة..
فاللائحة تتحدث عن الشعب كمصدر للسلطات وتسمح بمجلس فخيم ينوب عن الشعب في سن التشريعات ومراقبة الحكومة نفسها وضبط السياسات العامة، بينما الحكم لا يعبأ بصافرات الاستهجان التي يطلقها الشعب احتجاجا على عدم حماية اللاعبين، وعلى انقطاع الكهرباء في الملعب، وعلى لائحة تعمل بالمزاج فتعاقب وتتسامح بما يحقق أهداف “الرابطة التي تحكم” وليس بما يحقق الهدف من اللعبة نفسها.
والخلاصة أننا لا يصح لنا أن نتحدث في هذه المرحلة عن أزمة سياسية في مصر، لأن الحديث عن سياسة ودولة ونظام حكم يستوجب أولا أن تتوفر لدينا أساسيات معيشية من البديهي أن تتوفر للدول، ثم نختلف ونتصارع معا في طريقة إدارة هذه الأساسيات، أما الآن فقد وصلنا إلى طور ما قبل الدولة؛ توجد ضرائب ولا توجد وظائف وفرص عمل، تعمل السجون بكفاءة لا تتناسب مع كفاءة المحاكم ومستويات التقاضي، توجد فواتير باهظة في مقابل خدمات متدنية وغير منتظمة، توجد مشاكل جوهرية تعكر معيشة ومزاج المواطن.. وهذه “العكارة” لن تصلحها سياسة ولا مراسيم بقانون، هذه “العكارة” صارت “فوق سياسية”، بمعنى أن البدء بتنقيتها يحتاج إلى اعتراف علني بارتكاب جريمة إفساد معيشة الناس، ومثل أي فيروس يجلب المرض للناس، لا يصح الحديث عن مصالحة بين الصحة والفيروس، لا يصح أن نبرر فساد المعيشة بالحديث عن إنجازات سياسية واقتصادية وصلت بالبلاد والعباد إلى ما وصلت إليه من فساد الحياة اليومية..
ما ترموننا به من إنجازات يا عميان، ليس إلا وهما يروجه منذ القدم إعلام النصف في المائة، المفتون بحديث القصور والمشاريع الأيقونية والمجوهرات الملكية بينما نحن الشعب نعيش حفاة تأكلنا البلهارسيا والملاريا والسياط في أيدي الحكام..
أوقفوا المباراة.. لن ألعب في هكذا ملعب.. لن ألعب بهكذا حكام.