مقالات ورأى

طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي السابق يكتب: السيوف الحديدية حسابات الحقل غير حسابات البيدر!!

الحرب… شكل من أشكال السياسة تمارس بعنف، محكومة بتحقيق (غرض) محدد يصدره للمؤسسة العسكرية قائد سياسي في إطار توجيه مكتوب. وهو أي (غرض) الحرب من الأهمية بمكان، لأنه يرسم تفاصيل الخطط العملياتية واللوجستية ويعمل على توجيه الجهود بشكل فعال ويحقق التنسيق والتعاون الأمثل بين القطاعات على تنوعها،

بل يمكن القول إن دقة تحديد (غرض) الحرب وقابليته على التحقق – الجانب العملي – هي من بين عوامل هامة أخرى – حاسمة في تحقيق نتائج العمليات العسكرية، نصراً أو هزيمة، لذلك الاعتناء به واجب.

(السيوف الحديدية) هو الاسم الذي أطلقه الكيان الصهيوني على العمليات العسكرية على غزة، وكان الأجدر تسميتها (نزع السراويل !!) كما يقول الكاتب حاييم ليفنجستون في جريدة هآرتس، واختار لها رئيس الحكومة نتن ياهو غرضين: «القضاء على حماس، واستعادة الأسرى لدى كتائب الأقصى»،

وبعد تسعة أشهر من العدوان تتلاشى آمال الصهاينة في تحقيقها على الرغم من حجم النيران التي فتحت على غزة المحاصرة أصلاً والإبادة الجماعية واسعة النطاق، وهو ما كان تنبأ به عدد غير قليل من المفكرين الإستراتيجيين انتقدوا وحذروا منذ البداية من العمل بنص التوجيه.

بينما انتظر جنرالات جيش الاحتلال الصهيوني قتلة الأطفال ثمانية أشهر ليتذكروا أن أغراض الحرب على غزة وعلى وجه الخصوص (غرض القضاء على حماس) ليست غير منطقية فحسب، إنما غير عملية، أي لا يمكن بأي حال من الأحوال تحقيقها…!!!

جاء ذلك في تصريحات المتحدث باسم الجيش دانيال هاغاري «بأن الحديث عن تدمير حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ذر للرماد في عيون الإسرائيليين»، وأضاف في تصريح آخر للقناة 13 الإسرائيلية «فكرة أننا نستطيع تدمير حماس، أو جعلها تختفي فكرة مضللة للجمهور»، مبينا أن «حماس فكرة، ولا يمكننا القضاء على فكرة».

الجنرالات تجاهلوا هذه التحذيرات وفضلوا المضي على عجل بالعدوان منذ اللحظة الأولى، بعد أن أخذتهم صدمة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 من جهة، والشعور الطاغي بالقوة الجبارة (التي لا تقهر!!) تحت تصرفهم والدعم الأمريكي البريطاني غير المحدود من جهة ثالثة،

حالهم حال مجنون أصابته هستيريا وبيده آلة قتل مدمرة، فهل سيفكر بالانتقام العاجل ويشفي غليله أم ينصرف لدراسة التوجيه ويتأمل فيه وفي مضامينه ومدى عقلانيته وإمكانية تحقيقه، بحكمة وروية، أكيد سيقع رهينة الاحتمال الأول، وهذا ما حصل بالفعل…

جيش الاحتلال أخطأ في حساباته واكتشف بعد شهور أن حسابات الحقل غير حسابات البيدر! وأنه فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق (غرض) الحرب، لكن لأن الهزيمة يتيمة أو قل لقيطة لا أحد يشرفه أبوتها أو انتسابها له،

ولكي يخلي رئيس الأركان هاليفي نفسه من مسؤولية الفشل، وجد أن أفضل طريقة هي في تحميلها رئيس حكومة الاحتلال! من خلال تعريضه المتأخر جداً بـ (غرض) الحرب والطريقة التي كان صاغها رئيس الوزراء على شكل توجيه يفتقر للوضوح والمنطق، وإمكانية التحديد والقياس،

يريد أن يقول للإسرائيليين إن رئيس حكومتكم هذا ليس فقط جاهلا بل وغير مؤهل لإدارة حرب ناجحة وهو بالتالي يتحمل الإخفاق في تحقيق (غرض) الحرب.

تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» وصف تصريحات الجيش الإسرائيلي بأنها «توبيخ مباشر نادر» لنتانياهو، الذي طالما يشدد على تحقيق ما يسميه بـ»الانتصار الكامل» من خلال ثنائية القضاء على حماس، وإعادة جميع الرهائن الإسرائيليين.

رئيس الحكومة نتن ياهو هو الآخر لم يتأخر بالرد على تشكيك المؤسسة العسكرية واعتبره بمثابة انقلاب على القيادة السياسية المعنية مباشرة بوضع (غرض) الحرب للمؤسسة العسكرية كي تعتمدها كمرشد ودليل لرسم تفاصيل خطط العمليات الحربية واللوجستية، لم ينتظر بل رد على الجيش الإسرائيلي بقوله إن «إسرائيل دولة لها جيش وليست جيشا له دولة»، هو بالمناسبة لم يرد على ملاحظات الجيش حول عدم فاعلية (غرض) الحرب،

بل ذهب إلى إدانة انضباط الجيش لا غير، بينما ترك ولده ومؤيدوه للطعن بكفاءة الجيش وقدراته على حسم المعركة لصالحه، بينما هو لم يكن يفوّت فرصة خلال الشهور الماضية لإلقاء اللوم على كبار قادة الجيش والاستخبارات بخصوص ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي حين شنت كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس معركة طوفان الأقصى.

من الواضح أن القيادة في الكيان الصهيوني تعاني حالة استعصاء غير مسبوقة، وقد حل الشك محل الثقة المتبادلة بين السياسي والعسكري، وتعاظم الصراع بين المؤسستين وبات حقيقيا لا شكليا،

لكن الطرفان مع ذلك تجمعهما الرغبة المشتركة في إطالة أمد الحرب، وكأن هذه الرغبة أصبحت بمثابة (الغرض) المستور أو غير المعلن من الحرب، والكل يراقب الفشل الذريع في تحقيق (غرض) الحرب المعلن لابد من كبش فداء، وعين نتن ياهو على المؤسسة العسكرية بينما عين الأخيرة لا تغادر شخصه، والطرفان يتطلعان إلى تصفية حسابات قديمة مستفيدين من ضبابية التوجيه للحرب.

وهكذا أصبح غرض الحرب لا سيما المتعلق (بالقضاء على حركة حماس) وسيلة لا لإنجاز الحرب بوقت معقول بل إلى الدفع بحرب بلا أفق …. حرب لن تفضي إلى نصر …حرب بعد أشهر من اندلاعها لا يزال غرضها مثار جدل، يتبادل فيها العسكري والسياسي الاتهامات… مثل هكذا حرب لن يكتب لها الظفر خصوصا إذا ما تراكمت معها أسباب أخرى.

كما يقول عاموس هارئيل المحلل بصحيفة هآرتس إن «سلسلة من المناقشات أجريت الأسابيع القليلة الماضية مع شخصيات رفيعة المستوى في مؤسسة الدفاع تشير بشكل متزايد إلى أن إسرائيل تتجه نحو فشل ذريع متعدد الأبعاد».

لنا في التاريخ العسكري قصة نختم بها، ففي 23 يوليو 1942 أصدر هتلر التوجيه التالي لاحتلال ستالينغراد كغرض فرعي للحرب على روسيا (بربروسا):

«الغرض الرئيسي هو السيطرة على مدينة ستالينغراد وتدمير الدفاعات السوفيتية في المنطقة وقطع خطوط الإمداد الرئيسية للعدو».

توجيه واضح المعالم قابل للقياس، ومع ذلك تحول الهجوم على ستالينغراد إلى معركة استنزاف طويلة ودموية بين الجيش الألماني المهاجم والمدافعين عن المدينة.

معركة ستالينغراد بدأت في 23 أغسطس 1942 وانتهت في 2 فبراير 1943، بهزيمة إستراتيجية للجيش الألماني الغازي. هذا الانتصار كان نقطة تحول رئيسية في الحرب العالمية الثانية، حيث أوقف تقدم القوات الألمانية وبدأ سلسلة من الهزائم التي انتهت في النهاية بسقوط الرايخ الثالث.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنه حتى مع وضوح (الغرض) على أهميته فإنه لم يسعف هتلر ويمنع هزيمة جيشه، ذلك أن قتال الجيش النظامي في المدن والحضر (المناطق المبنية) مهمة شاقة والنصر فيها عزيز ونادر،

خصوصا إذا كان الجيش قد درب على الحرب الخاطفة، وتصدت له مجاميع من مقاتلين تمترسوا خلف الأنقاض وداخل البيوت المهدمة والشوارع المحفورة وبين الخدمات والمرافق المخربة… مقاتلين بواسل يحملون أرواحهم على أكفهم، ينشدون الشهادة كما ينشد غيرهم زينة الحياة الدنيا… حتى لو كانت ذليلة.

الحاصل، مسار الحرب في غزة ونتائجها حذر منه لواء الاحتياط بالجيش الإسرائيلي إسحاق بريك في مايو/أيار الماضي حين ذكر أن الجيش لا يملك القدرة على إسقاط حركة حماس حتى لو طال أمد الحرب،

مشيرا إلى أن إسرائيل إذا استمرت في الحرب ستتكبد خسائر جسيمة تتمثل في انهيار جيش الاحتياط الإسرائيلي خلال فترة وجيزة.

المحتل الصهيوني يريدها حربا طويلة بلا أفق ولا غرض واضح، يقتل فيها كل يوم المزيد من الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة ويدمر ويخرب فيها كل شيء، ونريدها بالمقابل (حرب استنزاف) تتفاقم فيها خسائره وتتحول فيها غزة إلى مأزق إستراتيجي يتعلم منه الغازي المحتل درس الحياة، ويعيد بموجبها حساباته ومن بينها صياغة (غرض) للحرب، يعبر عن واقع الحال، وهو أكثر وضوحاً ودقة:

المصدر صحيفة الشرق

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى