مقالات ورأى

محمد المختار الشنقيطي يكتب : فقه الثغور المتعددة والمساحات الرمادية

الممارسة السياسية الرصينة ليست تعلّقًا ذهنيًا بمثاليات مجردة، بل هي فنٌّ لتحقيق الممكن عبر بناء مساحات مشتركة، ضمن معادلات الزمان والمكان. الفعل السياسي لا يتحقق إلا من خلال مساحات مشتركة، سواءً مع أبناء الوطن الواحد داخليًا، أو مع دول وهيئات أجنبية خارجيًا. وكثيرًا ما يستلزم الغضّ عن أمورٍ لا تُسّرُّ، والتحالف مع مخالف ضد مخالف، والاستعانة بعدوٍّ على عدوٍّ.

النجاح في السياسة العملية، وما تستلزمه من بناء مساحات مشتركة مع الآخرين، يستلزم أمورًا ثلاثة

  • أولها: ما دعاه المفكر السياسي الأمريكي جوزيف نايْ “الذكاء السياقي”، وهو القدرة على استيعاب ظروف الزمان والمكان والإمكان، وما يترتب عليها من ترتيب الأولويات، واختلاف الواجبات، ومراتب المسؤوليات. وأول ملامح الذكاء السياقي هو وعي أهل كلِّ ثغرٍ بواجبهم المتعيّن في ثغرهم المخصوص، والسعي إلى سَدِّ ذلك الثغر بفاعلية، وعدم التشتُّت في مواجهات على ثغور أخرى لم يُحَمِّلهم الله أمرها، ولا يُجدي جهدُهم فيها، بل قد يضرُّ بواجبهم المتعيّن دون فائدة يجنيها إخوانهم على الثغور الأخرى.

ثانيًا: الحاسة الاستراتيجية. وهي مُرادف “الحكمة” في التراث الإسلامي. فإذا كانت الحكمة تُعرّف بأنها “وضع الشيء في موضعه”، فالحاسة الاستراتيجية هي “وضع الجهد في موضعه”. وتُحقق الغايات بأقل تكلفة وأسرع طريق، مُحققة التناسب بين التضحيات والنتائج.

ثالثها: الوعي بالبيئة الإقليمية والدولية المحيطة. هذا الوعي يُعِين الثورات وحركات التحرر على وضع نفسها ضمن سياق مواتٍ لرسالتها. لم يعرف تاريخ الثورات المعاصرة ثورة منزَّهة عن الدعم الخارجي، منذ الثورة الأميركية التي اندلعت عام ١٧٧٦ ودعمتها فرنسا الملكية، نكاية في الإمبراطورية البريطانية. فقد استنزفت فرنسا في حرب الأعوام السبعة (١٧٥٦-١٧٦٣) قبل ذلك بسنين معدودة.

ومن المعلوم تاريخياً أن مَلِك فرنسا المستبد لويس السادس عشر (١٧٤٥-١٧٩٣) لم يدعم الثورة الأميركية اقتناعا بقيَمها الجمهورية

فقد كان من أعظم ملوك أوروبا استبدادا وفسادا، لكن الآثار أهم من المقاصد في العمل السياسي، وما كان يهم الثوار الأميركيين هو آثار الدعم الفرنسي، لا مقاصد الملك الفرنسي. الثوار الذين يملكون ذكاء سياقيًّا وحاسَّة استراتيجية ووعيا بالبيئة المحيطة، يستطيعون التعامل مع الدعم الخارجي بحكمة وواقعية، بغضِّ النظر عن مقاصد الداعمين، بعيداً عن المزايدات والمثاليات الحالمة، دون الوقوع في شراك الداعمين وأهدافهم البعيدة عن أهداف الثورة. الداعم الخارجي للثورات وحركات التحرر الوطني لا يدعمها – في غالب الأحيان – إيمانًا واحتسابًا،

وإنما لتحقيق مصالح له، تتلاقَى تلاقيًا ظرفيًّا مع مصلحة الثوار، وقد تكون غاياته البعيدة نقيض ما يسعى إليه الثوار. وأكثر ما يكون دافعه هو النكاية في خصومه لا الرغبة في انتصار الثوار: • فحينما دعم قادة الشيوعية العالمية (ماو، خروتشوف، تيتو، هوشي منه) الثورة الجزائرية المجيدة (١٩٥٤-١٩٦٢) في الخمسينيات والستينيات، لم يفعلوا ذلك إيمانا واحتسابا، ولا دفاعا عن حق الجزائريين في الاستقلال عن فرنسا، بل نكاية في المعسكر الغربي، واستنزافا ومشاغَلة له، في أوج الحرب الباردة بين الشيوعية الشرقية والرأسمالية الغربية. • وحينما بدأ الأميركيون “عملية الإعصار” Operation Cyclon لدعم المجاهدين الأفغان في الثمانينيات

لم يفعلوا ذلك إيمانا واحتسابا، ولا دعما لحق الأفغان في الاستقلال وبناء دولة إسلامية، بل اقتناصا لفرصة تاريخية لاستنزاف الإمبراطورية الشيوعية الشائخة، على أيدي الشعب الأفغاني الأبيٍّ، وفي أرض أفغانستان الوعرة، المتمنَّعة على جيوش الغزاة، حتى لقَّبها المؤرخون “مقبرة الامبراطوريات”.

• وحينما دعم الأميركيون الثوار السوريين بالمال والسلاح في عملية “خشب الجمّيز” Timber Sycamore لم يفعلوا ذلك إيمانا واحتسابا، ولا نصرة للثورة السورية،

أو تشجيعا للثورات العربية. وإنما فعلوا ذلك استثمارا في بسالة الشعب السوري لتنفيذ “استراتيجية التهشيم” الذي ينتهجونها ضد الدول العربية المحيطة بالدولة اليهودية، وتخلصا من إرهاب “تنظيم الدول” دون ضريبة من الدم الأميركي. • وحينما يدعم قادة إيران حركة المقاومة الإسلامية (حماس) اليوم فهم لا يفعلون ذلك إيمانا واحتسابا، بل لأن هذه المقاومة جزء مهمٌّ من طوق النيران الذي تطوِّق به إيران إسرائيل،

وتحمي به نفسها، لتتمكن من مشاغلة الدولة اليهودية بعيدا عن حدودها، حتى تستكمل بناء سلاحها النووي الرادع. ولو كانت (حماس) مسيحية أو شيوعية فلن ينقص ذلك من أهميتها الاستراتيجية لإيران. وكثيرا ما تحْدُث القطيعة بين الثوار وداعميهم الخارجيين إذا تحققت أهداف الداعم قبل تحقُّق أهداف المدعوم.

بل قد يكون الداعم الخارجي أحيانا معاديا لأهداف الثورة التي يدعهما، ولا يمنعه ذلك من دعمها مؤقتا نكاية في خصومه، مع السعي الخفيِّ إلى تدمير الثورة ذاتها من الداخل.

فالدعم المالي والعسكري الخارجي من أشدِّ الوسائل فعالية للتحكم في مسارات الثورات، وتخريبها من الداخل. وهذا أسلوب خبيث برعت فيه القوى الدولية الغربية في تعاملها مع الثورات وقوى التحرير الوطني،

بينما كانت القوى الدولية الشرقية أقلَّ نفاقا وازدواجية في هذا المضمار. فحينما تحققت الأهداف الأميركية في أفغانستان، من انسحاب الجيش السوفياتي مدحورا،

وبداية تفكك تلك الإمبراطورية السوفياتية، انقلبت أميركا على المجاهدين الأفغان، وطاردت حلفاءهم من الأفغان العرب في كل مكان، وصنَّفتهم ضمن الجماعات الإرهابية. وحينما تحققت الأهداف الأميركية في سورية، فتهشَّمت الدولة السورية،

وخرجت من معادلة المواجهة مع إسرائيل، وتفكَّك تنظيم الدولة، وأصبح في خبر كان، تخلَّى الأميركان والتابعون لهم بإحسان عن دعم الثوار السوريين،

وتركوا الشعب السوري منكشفا أمام الهمجية الأسدية. بل إن بعض الحكام العرب الذين دعموا الثوار السوريين بالمال والسلاح سابقا تحت المظلة الأميركية اتجهوا في الأعوام الأخيرة إلى إعادة تأهيل بشار الأسد، وردّ الاعتبار لسلطته الغاشمة،

من خلال دعوته لقمم الجامعة العربية. فبرهنوا بهذا أنهم لا يملكون قرارهم الاستراتيجي، وأنهم طوعَ الأيدي الأميركية، في تطبيق النظرية الأميركية الجهنَّمية: “إعطاء الحرب فرصة“،

التي تناولناها في مقال سابق، وشرحنا ما يترتب عليها من تهشيم الدول وتمزيق المجتمعات. وإذا كان الثوار السوريون رأوا الحرب مع نظام بشار الأسد حربا وجودية – وهي كذلك من دون ريب – فإن الأميركان وجدوها مجرد فرصة انتهازية، واستخدام عابر للثوار السوريين، من أجل تهشيم إحدى الدول العربية المحاذية لإسرائيل،

واستئصال إرهاب “تنظيم الدولة” دون بذل للدم الأميركي، ودون السماح للشعب السوري بتحقيق ما يصبو إليه من تحقيق الحرية والكرامة الإنسانية في بلده، وكسْر قيد النظام الدموي الطائفي الذي حكمه أكثر من نصف قرن. فالحرية السياسية واستقلال القرار الاستراتيجي في المشرق العربي تغيير للبيئة الاستراتيجية المحيطة بالدولة اليهودية، وذلك خط أحمر جِدِّيٌّ لن يسمح الأميركيون بتجاوزه إلا راغمين، بخلاف الخطوط الوهمية الأخرى التي تحدث عنها باراك أوباما لتخدير الأسماع العربية، مثل استخدام بشار الأسد السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري. وقد نشر الباحثان “سلفيك” و”رولاندسن”، من “معهد بحوث السلام” و”المعهد النرويجي للشؤون الخارجية” في أوسلو،

بحثا أكاديميا مشتركا عام ٢٠٢٠ عن الدعم العسكري الأميركي للثوار السوريين، بعنوان: “متمرِّدون للاستعمال العابر” Disposable Rebels يصلح دراسة نموذجية للفجوة الشاسعة بين مطامع الداعم ومطامح المدعوم.

كما أن عنوان البحث يَصْدُق على حالات دول وقوى سياسية عديدة في تاريخنا المعاصر، بحكم كوننا أمة رضيتْ بدور المنفعل، وتخلَّتْ عن دور الفاعل، مدة مديدة. فكم فينا من حكام وقوى سياسية،

وحتى دول، للاستخدام العابر! ومن الأفكار المهمة التي خلص إليها البحث أن الدعم الأميركي للثوار السوريين مثال على اختلاف الأهداف بين الداعم والمدعوم، وهو أمر وارد وطبيعي في الأحلاف السياسية والعسكرية، كما أنه مثال على الحرب بالنيابة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأميركية، وهو أمر ليس جديدا في الاستراتيجية الأميركية.

وأن ذلك الدعم كان محكوما بغايات أميركية خالصة،

لا علاقة لها بانتصار الثورة السورية

، ومن هذه الغايات:

١) التحكم في كل الأطراف المتحاربة، مع الحيلولة دون انتصار أي طرف منها على الآخر

. ٢) التحكم في مستوى دعم الداعمين الإقليميين، وفي سلوك المدعومين داخل سوريا.

٣) الاقتصاد في الدماء والأموال الأميركية خلال تصفية تنظيم الدولية في سورية والعراق.

٤) تجنب الظهور الواضح للقوات الأميركية في بلاد لا يرغب أهلها في رؤيتها داخل بلادهم.

٥) منع الثوار من “التسوق المفتوح” للسلاح، لأن ذلك يمنحهم استقلال القرار الاستراتيجي.

٦) تفريق صف الثوار بتهميش القيادة السياسية للثورة والتعامل المباشر مع الفصائل المقاتلة.

٧) إبقاء الدعم أقل مما يحتاجه الثوار للانتصار، وربطه بمستوى “الولاء والطاعة” للداعم.

٨) التحكم في مدى العمليات العسكرية التي يشنها الثوار ضد النظام، وفي مسارها ونتائجها.

٩) وضع سقف لاستخدام الدعم العسكري، بما في ذلك التحكم في تحديد الأهداف العسكرية.

١٠) إبقاء الحرب مفتوحة لمدة مديدة، دون غالب ولا مغلوب، تدميرا لجميع الأطراف المتحاربة.

يبقى من حق الجميع على الجميع عدم تعيين ظالم على أخيه، وعدم تسويغ ظلم أخيه، هذا أقل ما تستلزمه الروابط الدينية والإنسانية والتاريخية والجغرافية. ولله الحمد، فإن غالبية أهل هذه الثغور يلتزمون بهذا المبدأ لدوافع إيمانية وإنسانية تتجاوز الاعتبارات السياسية وتتفوق عليها. الرؤية الاستراتيجية

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى