لم يكن قرار الحكومة المصرية في الأول من شهر يونيو بزيادة سعر رغيف الخبز البلدي المدعم من خمسة قروش إلى 20 قرشاً، بنسبة زيادة 300%، هي الزيادة الأول التي يتم إضافتها لسعر رغيف عيش الغلابة منذ سنة 1988، وإن كانت الأعلى على الإطلاق.
فقد سبق وخفض نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي وزن رغيف الخبز المدعم من 125 غراماً إلى 110 جراما ثم إلى 90 جراما في سنة 2020.
وهو تخفيض في دعم الخبز بنسبة 28% بطريقة ملتوية ومخادعة خوفاً من الاضطرابات الشعبية.
ويدعي النظام أن قيمة دعم رغيف العيش زادت الموازنة المالية الحالية إلى 125 مليار جنيه، في مقابل 21 ملياراً في سنة 2013.
والواقع أن قيمة الجنيه هي التي انخفضت وبالتالي لم تزد قيمة الدعم بل العكس هو الصحيح.
وانخفضت قيمة الدعم، مقدرة بالدولار، ولم تزد، ذلك أن حكومة الدكتور محمد مرسي كانت توفر الخبز في 2013 لنحو 77 مليون مواطن، وبتكلفة 21 مليار جنيه، تعادل 3.2 مليارات دولار، وكان وزن الرغيف 125 غراماً.
لكن في الوقت الراهن، خفضت حكومة السيسي عدد المستفيدين من الخبز إلى 70 مليون مواطن، بنسبة 10%، ورغم تخفيض وزن الرغيف وعدد المستفيدين، زادت تكلفة دعم الرغيف إلى 125 مليار جنيه.
وقيمة هذا المبلغ تعادل 2.6 مليار دولار.
وبالتالي فإن زيادة قيمة دعم الخبز في موازنة 2024 هي زيادة نظرية وناتجة عن تخفيض قيمة الجنيه في مقابل الدولار.
الخبز هو العيش
في كل دول العالم، الخبز هو السلعة الأساسية والسياسية الأهم من الناحية الغذائية والإجتماعية، وهو الأخطر من الناحية السياسية والأمنية.
وقد كان سبباً رئيساً في إشعال الثورات الاجتماعية قديماً، ومطلب ثورات الربيع العربي الأول حديثا في بداية العقد الماضي.
وفي مصر، الخبز هو العيش، بمعنى الحياة، وهو أحد دعائم الإستقرار الاجتماعي للأسرة المصرية، وهو مسمار البيت كما يطلقون عليه.
ويعتمد المواطن المصري على الخبز البلدي المدعم في سد جوعه وتلبية 60% من حاجاته الأساسية من السعرات الحرارية و35% من احتياجاته من البروتين.
وفي شهادة للبنك الدولي في سنة 1995، يعود الفضل إلى حد كبير إلى نظام دعم الغذاء في ضمان توافر المواد الغذائية الأساسية بأسعار معقولة للسكان والمساعدة في الحد من وفيات الرضع وسوء التغذية.
وبعد أزمة الغذاء العالمية، قدم البنك الدولي شهادة في سنة 2009، قال فيها أن نظام دعم الخبز والسلع التموينية في مصر، كانت حماية من إنزلاق عشرات الملايين من السكان في براثن الفقر والفقر المدقع وسوء التغذية، وإنه بدون دعم الغذاء، وخاصة الخبز البلدي، كانت نسبة الفقر في مصر سترتفع إلى 30%، مقابل 20% قبل الأزمة.
تخفيض الدعم بالتزامن مع زيادة الفقر
توقيت زيادة سعر الخبز الذي اختاره الجنرال السيسي غير مناسب، حيث حيث تواجه الأسرة أزمة اقتصادية، ربما هي الأسوأ في تاريخها الحديث، ناتجة عن فشل الأداء الإقتصادي وتراجع الإنتاج الزراعي والصناعي وزيادة معدلات البطالة وارتفاع أسعار الغذاء في مصر.
وقد سجلت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ارتفاع معدل التضخم السنوي إلى 40.3% في نهاية العام الماضي.
وقد أعلن البنك الدولي أن مصر تتصدر قائمة الدول الأكثر ارتفاعاً في أسعار الغذاء على مستوى العالم.
ورغم تجميل الأرقام، أظهرت دراسة للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء حجم معاناة الأسر المصرية وآلام الجوع التي تكابدها تلك الأسر وأطفالها بسبب غلاء الأسعار وتراجع قيمة الدخل.
وكشفت الدراسة أن 90% من الأسر المصرية خفضت استهلاكها من الطعام بكل أنواعه.
وخفضت 94% من الأسر استهلاكها من اللحوم والدواجن.
وخفضت 92.5% من الأسر استهلاكها من الأسماك، و75% من الأسر خفضت استهلاكها من الأرز والبيض والزيت والفاكهة.
إنها مجاعة حقيقية بكل بما تحمله الكلمة من معاني، تعصف بالأسر المصرية في كل المستويات الإقتصادية والإجتماعية.
وقد انعكس الوضع الإقتصادي المتردي على الإستقرار الأسري والأمن المجتمعي في مصر.
وكشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مايو سنة 2023 عن ارتفاع حالات الطلاق بنسبة 14.7% خلال عام واحد.
وأرجع أساتذة علم الاجتماع السبب في ارتفاع معدلات الطلاق إلى زيادة الأعباء المالية وعدم قدرة الأباء على سد احتياجات الأسرة، وتراكم الديون والعجز عن السداد.
وفاقم أزمة الأسر المصرية، حذف الحكومة سلعة الأرز من منظومة البطاقات التموينية في أغسطس دون مبرر إقتصادي أو سياسي، سيما أنه يمثل أهمية غذائية لكل أسرة مصرية.
وهو مصدر غذائي محلي غير مكلف لأنه لا يتم استيراده بالدولار.
والأرز سلعة شعبية تدعم الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي وبالتالي يحقق الأمن القومي.
وإقدام النظام على حذفه من منظومة البطاقات التموينية مؤشر على الفشل في توفير السلع الأساسية منذ سنة 2014، يكشف عن هدف النظام في تنفيذ املاءات صندوق النقد الدولي، خاصة فيما يتعلق بتخفيض فاتورة الدعم، وتحويل الدعم من العيني إلى العيني النقدي، تمهيدا لتحويله تدريجيا إلى النقدي الكامل.
وهذا ما أدى إلى ارتفاع أسعار الغذاء فوق طاقة المواطنين المصريين الذين يقبع 60% منهم تحت خط الفقر.
ما يزيد من معاناة الأسرة المصرية، إقدام حكومة السيسي منذ سنوات على تخفيض حصة المستفيدين من منظومة دعم البطاقات التموينية من سلعة الأرز، البديل المحلي لرغيف الخبز، من 10 كيلو جرام للاسرة المتكونة من خمسة أفراد إلى كيلو واحد فقط، ورفع السعر الكيلو من 1.5 جنيه إلى 12.5 جنيه.
ثم قرر وزير التموين، على المصيلحي، حذف الأرز تماما من منظومة الدعم منذ شهر سبتمبر سنة 2023، خوفا على الأرز من البهدلة.
وقال “مفيش رز على التموين، ليس لعدم وجود أرز، لكن نظرًا لأن الخميسن جنيه تغطي الزيت والسكر، وبالتالي أنزل الأرز يتبهدل؟”.
وهنا ظهرت خطورة تحويل الحكومة الدعم من العيني إلى العيني النقدي، حين قرر تثبيت حصة الفرد من دعم البطاقات التموينية بمبلغ 50 جنيه في سنة 2017، وكانت تعادل 3 دولارات تقريبا.
ثم تراجعت قيمتها إلى دولار واحد تقريبا، وتقلصت قيمة الدعم نتيجة انخفاض قيمة الجنيه وارتفاع أسعار السلع أكثر من مرة، ثم حذفت الوزارة الأرز، الذي كانت تعتبره سلعة استراتيجية، من منظومة الدعم نهائيا وزاد سعره إلى في السوق إلى أكثر من 40 جنيه للكيلو، لأن الإنتاج المحلي يتراجع والنظام يحارب زراعة الأرز بحجة استهلاك مياه الري وهو مبرر غير علمي.
وفي ظل سياسة إفقار الفلاح المصري والتي ينتهجها نظام السيسي، وتراجع الإنتاج المحلي من الغذاء والإعتماد على الإستيراد من الدول الداعمه لنظامه، سوف تتضاعف أسعار السلع كلما قرر النظام التحول للدعم النقدي.
وهو ما نحذر منه منذ استولى السيسي على الحكم وقرر العبث بمنظومة الدعم والعدالة الإجتماعية.
ومن صور العبث بدعم الخبز، رغم أهميته الغذائية وخطورته السياسية والإجتماعية، إعلان رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، عن تحويل دعم الخبز والسلع التموينية من الدعم العيني المعمول به في مصر منذ منتصف القرن الماضي إلى الدعم النقدي.
وذلك بقوله “إن الدولة تدرس تحويل منظومة الدعم العيني إلى نقدي، هناك فكرة إني بدلًا من دعم رغيف الخبز وأنبوبة الغاز، أحسب متوسط ما تتحمله الدولة، وأعطيه للمواطن في صورة نقود يحدد بها الأولوية بالنسبة له”.
وأعلن عن طرح الموضوع على الحوار الوطني لوضع تصور قابل للتطبيق تدريجيا من العام المالي 2025 – 2026.
من نافلة القول التأكيد على أن السيسي يهدر منظومة الدعم والعدالة الإجتماعة منذ استولى على الحكم بالإنقلاب العسكري في منتصف 2013.
لكن يجب التأكيد أيضا على خطورة التحول من الدعم العيني إلى النقدي في ظل حالة تردي الأمن الغذائي المصري، حيث يرفض النظام سياسة الإكتفاء الذاتي من الغذاء، ويحارب إنتاج القمح والأرز محليا.
وقد يظن البعض أن الدعم العيني كله عيوب، وأن النقدي كله مزايا. والحقيقة أن كل نظام له مزايا وفيه عيوب.
وقد ينجح الدعم النقدي في دولة ويفشل في أخرى، بحسب الوضع الاقتصادي للدولة ومستوى الشفافية والرقابة.
مزايا الدعم العيني
في الدول الفقيرة التي لا تنتج غذائها بنفسها وتعاني من مستويات التضخم العالية، يصبح الدعم العيني أفضل من الدعم النقدي وعلاج للتضخم لأنه يوفر السلعة بسعر مدعم، لأن التضخم المرتفع سوف يمتص جزءًا كبيرًا من الدعم النقدي وتزيد معاناة الفقراء.
وأثبتت التجارب الاقتصادية في دول عديدة أن التحول إلى الدعم النقدي في ظل بيئة اقتصادية متردية يكرس التضخم ويزيد الأسعار.
في سنة 2005 أجرى مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري دراسة بعنوان، الأبعاد الاقتصادية والتوزيعية للتحول من الدعم العيني إلى الدعم النقدي للخبز البلدي.
ورغم أن هدف الدراسة كان وضع الآليات والسياسات والمتطلبات اللازمة للتحول إلى الدعم النقدي للخبز وباقي السلع التموينية، فإنها خلصت إلى أن للدعم العيني فوائد اجتماعية لا ينبغي إغفالها.
وهي أنه يضمن توفير الخبز والسلع الأساسية بأسعار منخفضة للفقراء، ويساهم في تحسين مستوى التغذية للأسر الفقيرة وأطفالهم.
ورغم التوصية بالتحول إلى الدعم النقدي، فقد حذرت الدراسة من تنفيذ القرار، وقالت إنه محفوف بتداعيات اجتماعية وأمنية خطيرة يتحتم على الجهاز الحكومي تقديرها تقديرا دقيقا تحسبا لآثاره الوخيمة على الاستقرار السياسي.
وحدث ذلك بالفعل في دول كثيرة حول العلم، وفي مصر في سنة 1977، وفي مارس سنة 2017، وفي سبتمبر سنة 2019. ولذلك تراجع نظام مبارك عن سياسة الدعم النقدي.
ورغم هذه الفوائد، فإن للدعم العيني عيوبًا لا يمكن تجاهلها أيضا.
فهو يصل إلى غير مستحقيه من الأغنياء قبل أن يصل إلى مستحقيه من الفقراء، وإن كان غالبية المصريين في حاجة إلى الدعم حاليا، كما أن تكلفة توصيل الدعم العيني للمستحقين عالية.
إذ تصل إلى 30% تقريبًا من قيمة السلع التموينية والخبز المدعوم، تذهب في صورة رواتب لموظفي الرقابة على توزيع الخبز والسلع التموينية التابعين لوزارات التموين والداخلية والعدل.
أما الفساد المالي المحيط بمنظومة الدعم العيني والمعشش داخل ديوان عام الوزارة فلا تخطئه عين؛ حيث يتم التعاقد مع موردين بعينهم في مقابل عمولات تذهب إلى المسؤولين.
ولهذا السبب، يُحاكم عدد غير قليل من المسؤولين في ديوان الوزارة وفي مكتب الوزير بتهم فساد.
أما نوعية الخبز والسلع التموينية التي تقدم للمواطنين في منظومة البطاقات التموينية فهي رديئة وناقصة الكمية.
وكثيرا ما تتسرب السلع التموينية وتباع في السوق السوداء مباشرة أو بعد تغيير عبواتها الأصلية تحت أعين أجهزة الرقابة الحكومية.
مزايا الدعم النقدي
أولًا:
وصول الدعم لمستحقيه من محدودي ومعدومي الدخل ومنع تسريبه إلى القادرين.
وهي العلة التي تتذرع بها الحكومة لتحويل الدعم العيني أو السلعي إلى نقدي، أو من دعم السلعة إلى دعم المواطن.
وهو بالفعل ميزة لا تتوفر في الدعم العيني، حيث تجد السلعة المدعومة طريقها إلى القادرين، الذين يتمسكون بالبطاقة التموينية، في حين أن كثيرا من الأسر الفقيرة والحديثة الزواج محرومون هم وأطفالهم من الحصول على بطاقات تموينية منذ عام 1989.
ثانيًا:
انخفاض تكلفة توصيل الدعم النقدي للمستحقين، من خلال التحويلات البنكية المباشرة في حساب البطاقة الذكية للمواطن، وبالتالي يمكن زيادة الدعم النقدي للمواطن بنفس قيمة تكلفة توصيل الدعم العيني.
ويمكن إلغاء وزارة التموين تماما، والاكتفاء بلجنة في الحكومة لمراجعة قيمة ومستحقي الدعم النقدي، كما يقع في كثير من الدول.
ثالثًا:
سهولة تقدير قيمة الدعم النقدي برقم ثابت في الموازنة العامة للدولة. أما الدعم العيني فيصعب التنبؤ بقيمته حتى نهاية السنة المالية.
حيث تتغير قيمته بتغير أسعار القمح، مادة صناعة الخبز، من وقت لآخر في السوق الدولية، وهو ما ينعكس مباشرة على تكلفة الخبز.
ذلك أن مصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم، حيث تستورد 75% من احتياجاتها من الخارج، حوالي 12 مليون طن.
كما تتغير قيمة دعم الخبز بتغير دعم الوقود، السولار والغاز الطبيعي، المستخدم في تشغيل المخابز، الذي تتغير تكلفته بحسب أسعار البترول في السوق الدولية أيضا.
عيوب الدعم النقدي
أولًا: ارتفاع الأسعار وتآكل قيمة الدعم لدرجة تفوق قدرة الفقراء وغير المشمولين بالدعم على شراء السلع.
خاصة في الدول غير المنتجة أو الدول المستوردة للغذاء مثل مصر، حيث تستورد 60% من الغذاء سنويا.
وقد كشفت دراسة لمركز معلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء في سنة 2005، بعنوان “بدائل تطوير نظام الدعم الغذائي في مصر” عن تقرير للبنك الدولي رصد الآثار الاقتصادية المتوقعة نتيجة تطبيق الدعم العيني.
وكان أهم هذه الآثار، ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم.
وفي حالة عجز الإنتاج عن تلبية احتياجات المستفيدين من التدفقات المالية في الدعم النقدي، تزيد أسعار السلع دون أن تحدث زيادة في معدلات استهلاك المستفيدين، نظرًا لعدم توافر السلع التي تقابل الطلب.
وفي السنوات الأخيرة، حدثت زيادات في أسعار السلع التموينية عند التحول من الدعم العيني إلى النقدي العيني.
حيث زادت أسعار الأرز من 1.5 جنيه للكيلوغرام إلى 15.5 جنيهات، وزادت أسعار السكر من 1.25 جنيه للكيلوغرام إلى 16.6 جنيهات، وزادت أسعار الزيت من 3 جنيهات إلى 37 جنيها، ورغم الزيادة ظلت قيمة الدعم ثابتة عند 50 جنيه.
ثانيا: عند اكتفاء الدولة بالعم المالي ورفع يدها عن استيراد القمح وإنتاج الخبز، ستقع بلا شك أزمات الخبز وقد يختفي من المخابز، وتعود حوادث الموت في طوابير الخبز التي انتشرت قبل ثورة يناير.
وقد اختفت السلع التموينية، الأرز والسكر والزيت، من محلات السلع التموينية ومن السوق في أوقات مختلفة وفي محافظات عديدة بعد تحويل دعم السلع التموينية إلى النقدي العيني.
والخلاصة
أن الدعم العيني للخبز يظل حتى الآن، مع ما يشوبه من قصور، هو الوسيلة الفعالة لعلاج الفقر الناتج عن السياسات الاقتصادية الفاشلة، ولتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في توزيع الثروة، وإنصاف سكان الريف المحرومين من الخدمات، والتخفيف من آثار البطالة، وبسط الاستقرار الأسري، وتعزيز الأمان الاجتماعي، والسلامة والصحة النفسية لأفراد المجتمع، وتقليل وفيات الأطفال وتكاليف علاج الأمراض المصاحبة للفقر وسوء التغذية، وتقليل جرائم العنف والقتل والسرقة والسطو التي انتشرت في مصر بعد الإنقلاب العسكري.