هناك خَلْطٌ واضحٌ لدى البعض بين السُلْطةِ والوطن.
سترحلُ هذه السُلْطةُ كما رَحَلَتْ سابقاتها وكما سترحلُ لاحقاتها .. أمَّا الوطن فَبَاقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو الذي يَحزنُ لحاله ويُضَّحِي من أجله المخلصون من أبنائه.
سَأَلَنِي أَحَدُهُم: (نَعرفُ ما هِيَ السُلْطة، ولكن ما هو الوطن؟) .. أَجَبْتُه (في حالة مصر، أُحيلُك إلى إجاباتٍ ثلاث، إحداها لِمُثقفٍ كبيرٍ واثنتين من مصريَيْن “عاديين” بالفطرة دون تسبيب).
الإجابةُ الأولى: سمعتها من المفكر الكبير د. أحمد كمال أبو المجد .. كان مبعوثاً للدراسات العليا فى فرنسا منتصفَ الخمسينات وكان يخطب فى المُصَّلين من كافة الجنسيات بالمركز الإسلامى المصري بباريس عقب كل صلاة جمعة مؤيداً لثورة الجزائر الوليدة ..
فوجئ ذات يومٍ باستدعائه إلى بلدية باريس حيث أخبره أحد مسؤوليها أنهم يتابعون بلاغته الخطابية ويريدونه خطيباً بمقابلٍ مُغرٍ فى مسجدٍ أنشَأَتْه البلدية ويتبعها شريطة ألا يؤيد (التمرد)..
اعتذر بدافعٍ ذاتيٍ عن عدم قبول العرض المُغرى لطالبٍ لا يكاد البدل الذى يتقاضاه يكفيه .. بعد أيامٍ جاءه إنذار رسمى بضرورة مغادرة فرنسا خلال ٤٨ ساعة دون إبداء الأسباب ..
أُسقِط فى يد الطالب وذهب إلى السفارة المصرية كإجراء روتينى لإبلاغهم بقطع البعثة .. وبينما هو يوقع بعض الأوراق فى إحدى حجرات السفارة، فوجئ بالموظف يصطحبه ليقابل السفير شخصياً، حيث طلب منه السفيرُ أن يقص عليه السبب الحقيقى لطرده ولا داعى للكذب لأن الأمر قد قُضى .. قَصَّ عليه أبو المجد ما حدث ومضى إلى حال سبيله ..
بعد يومين ذهب إلى بلدية باريس لإنهاء إجراءات المغادرة ففوجئ بسكرتير ثالث السفارة المصرية الدبلوماسى الشاب أشرف غربال فى انتظاره موفداً من السفير ..
دخل معه إلى مسؤول البلدية وقال له باعتدادٍ (لقد تحققنا من أن هناك تعسفاً فى التعامل مع المبعوث المصرى .. ونخبركم أنه إذا تم طرده سيتم طرد عشرة من الخبراء الفرنسيين فى مصر ..
ولن نعيده للقاهرة وسيكمل بعثته على الجانب الآخر من المانش فى إنجلترا) .. على باب البلدية، وأبو المجد لم يفق بعد من ذهوله، أبلغه الدبلوماسى الشاب أن السفارة المصرية فى لندن ستتولى إجراءات استكمال دراسته فى إنجلترا، وسَلَّمَه تذكرةَ القطار إلى بروكسل ثم السفينة إلى بريطانيا (لم يكن نفق المانش قد أُنشئ) ..
فانفجر كمال أبو المجد باكياً متأثراً وقال (لستُ بحاجةٍ إلى تذاكر أو نقود .. يكفينى أننى أنتمى لهذا الوطن العظيم) ..
والحقيقة أن هذا الوطن العظيم فى نظر الطالب المصرى لم يكن قد أصبح عظيماً بالمقاييس الدولية ..
لم يكن قد تَطَّهر من آخر جنود الاحتلال الإنجليزى بعد .. ولا استرد قناته .. ولا بنى مصانعه .. بل لم يكن جيشه يزيد على عدة كتائب مشاة ..
ولكنه أشعر المبعوث الشاب بالانتماء إلى حضنٍ يحنو على أبنائه ويعتز بهم ويَزِنُ الواحد منهم بعشرةٍ من الفرنسيين .. فتحقق الانتماءُ الذى يُفَّجِر الطاقات.
الإجابة الثانية: سمعتها من الأديب الكبير جمال الغيطانى .. وقد كان مراسلاً حربياً أثناء حرب الاستنزاف ..
كان عويس (على ما أذكر) شاباً على مشارف العشرين من عمره يعيش فى السويس التى أتاها قبل سنواتٍ طفلاً فى السابعة مع بعض أقاربه الصعايدة بحثاً عن الرزق ..
بعد النكسة بقى عويس فى السويس مع قليلين ممن لم يتم تهجيرهم ..
ظلّ فى السويس يعيش على قروشٍ قليلةٍ حصيلة شرائه لكميةٍ من الجرجير والليمون من المزارع المحيطة بالسويس ثم بيعها للجنود الذاهبين إلى وحداتهم ..
كان قد انضم لعناصر المقاومة التى تعبر القناة من آنٍ لآخر تحت إشراف المخابرات المصرية .. فى أحد الأيام فاجأه قائده بأن يستعد لتنفيذ مهمة ..
تململ عويس، إذ لم يكن قد باع حصة اليوم .. فقال له الكابتن غزالى بحسم (عليك أن تختار بين قروش الجرجير وبين الوطن) ..
دون ترددٍ اختار الوطن وذهب معهم واستُشهد ..
عويس الذى لم يُعطه الوطن أُسرةً ولا تعليماً ولا مالاً، ولكن أعطاه الإحساس بالحضن الكبير والهدف النبيل، فاختار الوطن دون أن يشغل نفسه بالكلام الكبير عن تعريف الوطن والانتماء.
الإجابة الثالثة: حكاها لي في المعتقل المهندس مجدي المسيحي (المُتَّهَم بالانضمام لجماعةٍ إرهابيةٍ!!!) ..
كان إخوته المقيمون في أمريكا يستضيفون أُمَّهُم عندهم منذ سنواتٍ بعيدةٍ ..
فَلَّمَا استشعرتْ أُمُّ مجدي الصعيدية الأُمِّيَة قُرْبَ النهاية، أَلَّحَتْ على أبنائها وأحفادها أن يتركوها تعود إلى مصر ..
فلما سألوها مستنكرين (تَعودين لِمَنْ؟ فلا أحد من أبنائك هناك) لَخَّصَت الأمرَ دون فذلكة أو تعقيد: (التراب اللي “…” فيه وأنا صغيرة “كلمة عامية تعني قضاء الحاجة”، هو نفس التراب اللي يلِّم عضمي لما أموت) ..
قالتها ولَم تكن بالقطع قد قَرَأَتْ قَوْلَ جابرييل جارسيا ماركيز (لا ينتسب الإنسان إلى أرضٍ لا مَوْتَى له تحت ترابها).