لا شك أن الهجمة العدوانية التي تقودها الحكومات الأمريكية المتعاقبة على العالم الإسلامي، ولا سيما منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، تدعو إلى المزيد من الدراسة للوقوف على خلفياتها وأهدافها وأهم مشكلاتها الفكرية.. ولا شك أن الوقوف على نتاج “المستشرقين الجدد” في الولايات المتحدة، يعد من أهم مشكلات الوعي بهذه الحقبة العدوانية، ولا سيما تجاه قضية فلسطين، وما نشاهده ويشاهده العالم معنا اليوم من الإبادة الجماعية في غزة، وذلك بعد أن عاينا التدمير الشامل والوحشية منقطعة النظير في العدوان على أفغانستان والعراق.
فكل ذلك لم يأت من فراغ، بل جاء محملا بعبوات شحن فكري ونفسي بالغة الكراهية، فقد بلور “المستشرقون الجدد” بالفعل صورة شوهاء للإسلام والمسلمين، كما أنهم لم يتصوروا غير الصدام مع العالم الإسلامي، وحتى النهاية. وبرغم أنهم في ذلك ليسوا منفصلين عن التراث التاريخي للاستشراق الغربي المعبأ بذات المضامين، إلا أن معاصرتهم وتأثيرهم الواضح، يلزم بضرورة الوقوف على جوانب تفكيرهم، وتصورهم للعلاقة مع العالم الإسلامي.
وأهم من عبّر عن هذا الاتجاه الصدامي داخل العقل الإستراتيجي الأمريكي: صموئيل هنتنجتون، وبرنارد لويس، ولأننا نشهد اليوم في حرب الإبادة المشرعة تجاه غزة صورة واضحة من صور صدام الحضارات، فإن أهمية كتاب صموئيل هنتنجتون “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي” تتصدرها جميعا، وخاصة أنه يؤكد على ضرورة المواجهة بين الحضارة الغربية (المسيحية اليهودية) مع الإسلام، كما أنه يمثل التيار الأهم بين النخب الثقافية والسياسية في الولايات المتحدة، والتي تتحكم إلى حدّ كبير في مؤسسات الحكم والمجتمع الأمريكي.
أما عن أهم محاور الكتاب التي تتعلق بالإسلام والعالم الإسلامي فيمكن رصدها كالتالي:
1- التأكيد على أن “الحضارة الإسلامية” عادت تفرض وجودها بشكل تدريجي، وأصبحت تشكل تحديا سافرا للغرب، ولا سيما خلال الربع الأخير من القرن العشرين.
2- يحاول الكتاب تثبيت فرضية خطورة الإسلام، ويحرض على مواجهته، وإن أدخل الصين في هذه الحرب، إلا أن ذلك يأتي بشكل عرضي، مثل الحديث عن احتمال التحالف الصيني/ الإسلامي.
3- يصف العلاقة بالإسلام بأنها علاقة صراع وتصادم في كثير من الأحيان، ويؤكد على أن المشكلة لا تتعلق بالإسلاميين وإنما الإسلام نفسه، ولهذا فهو يطرح فكرة صدام الحضارات، من خلال فكرة العدو البديل للشيوعية.
4- يعتبر الكتاب أن السبب الرئيس لتحدي المسلمين للحضارة الغربية، إنما يعود لنموهم الديموغرافي، وحيويتهم، وانبعاثهم الثقافي والاجتماعي والسياسي المتواصل، ورفض القيم والمؤسسات الغربية، وتوجه غالبيتهم نحو الإسلام كمصدر للهوية والتوازن والشرعية والقوة والتنمية والأمل، وذلك في إطار شعار مركزي “الإسلام هو الحل”.
5- كما يعتبر أن “الانبعاث الإسلامي” الذي تشهده المنطقة والذي يتميز بالشمول والعمق والاتساع، هو المرحلة الأخيرة لتموقع الحضارة الإسلامية بالنسبة للغرب، فهو جهد داخلي كبير، يبحث عن حل إسلامي لا يعتمد على الأيديولوجيات الغربية، كما يستند إلى الإسلام كمنهج حياة، ويرفض الثقافة الغربية.
6- كما يرى أن الإسلام يمتلك العديد من المخاطر على الغرب، منها “النمو السكاني الكبير”، و”الثروات الطبيعية”، “والحركية الاجتماعية” التي تحدثها الحركات الإسلامية في شتى مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، والتي ستؤدي إلى امتلاك زمام الحكم.
7- برغم أن المسلمين لا يمتلكون قوة عسكرية أو اقتصادية كبيرة.. وبرغم أنهم لا تتوافر لديهم “دولة محورية” تجمع قوى العالم الإسلامي المبعثرة، إلا أنهم يعدون أخطر من الحضارة الصينية، فلقد كان الغرب دائما تحت تهديد الإسلام، كما أنه يهدده اليوم من داخله من خلال تزايد عدد المهاجرين داخل المجتمعات الغربية، والنمو الكبير لأعداد المهاجرين.
8- ويؤكد الكتاب على أن أطماع الغرب وعمله على فرض عالميته، تقوده حتما إلى الدخول التدريجي في صراع مفتوح مع الإسلام والصين.
9- كما يعتقد أن ظهور حروب حدودية على المستوى المحلي بين المسلمين وغير المسلمين ستنشئ تحالفات جديدة، تؤدي إلى تصعيد العنف.
10- ويروج الكتاب لأن الحضارة الإسلامية تمثل “الحدود الدموية في العالم”، فهي الحضارة الوحيدة التي لها علاقات صراع مع كل الحضارات عدا الصين، وذلك في تجاهل واضح لمحنة الأويغور في تركستان الشرقية.. لهذا فهو يحذر من إمكانيات التحالف الذي بدأت تظهر معالمه بين الصين والإسلام في مواجهة الغرب، الذي يعد عدوا مشتركا بالنسبة لهما.
11- كما يرى أن الصدامات الخطيرة المرتقبة والتي ستشكل مستقبل العالم ستكون بين ما أسماه “الكبرياء الغربي” و”اللاتسامح الإسلامي”! و”إرادة فرض الذات الصينية”، ولا يستبعد التحالف الإسلامي/ الصيني في مواجهة الغرب، الذي يمثل العدو المشترك، لهذا فهو يحذر من إمكانية نقل التكنولوجيا الخاصة بالصواريخ وأسلحة الدمار الشامل إلى العالم الإسلامي عبر الصين وكوريا الشمالية، ويؤكد على خطورة التعامل بين دول هاتين الحضارتين.
12- ضرورة تنبيه الغرب إلى المخاطر التي تهدده من الداخل بسبب “الانهيار الأخلاقي” و”الانتحار الثقافي” و”التفكك السياسي”، والتي تعتبر أخطر من “ضعف النمو السكاني” و”الركود الاقتصادي” و”المخدرات”، كما أن “العنف يتنامى” داخل المجتمعات الغربية “والأسرة تنهار” (ارتفاع معدلات الطلاق- الأولاد غير الشرعيين- حمل المراهقات.. إلخ) كما أن “المشاركة المجتمعية التطوعية تتآكل”، كما “يتراجع الاهتمام بالمعرفة” والنشاط الفكري.. وفي الوقت الذي يرى الكتاب أن استمرار قوة الغرب مرتبطة بقدرته على مواجهة هذه المشكلات، فإنه يرى أن الشعوب المسلمة تتميز على الغرب فيها.
13- وأهم ما ينصح به الكتاب لمواصلة “الهيمنة الغربية”، والتصدي “للانبعاث الإسلامي” و”الحضارة الصينية” الآتي:
– حسن إدارة الاندماج السياسي والاقتصادي والعسكري بين أمريكا وأوروبا وتنسيق السياسات بينهما.
– إدماج أوروبا الوسطى في الاتحاد الأوربي وحلف شمال الأطلنطي.
– تشجيع حركة تغريب أمريكا اللاتينية، والعمل على إلحاقها بدول الحضارة الغربية.
– السيطرة على القوة العسكرية التقليدية وغير التقليدية في العالم الإسلامي.
– اعتبار روسيا دولة محورية في العالم الأرثوذكسي، وتوظيفها في مواجهة الإسلام في آسيا الوسطى.
– إبعاد اليابان عن الصين، ومنع الشعوب الصينية من امتلاك أسباب القوة العسكرية، وإدارة حرب باردة اقتصادية على الجبهة الصينية وسياسية على الجبهة الكورية الشمالية.
– استمرار الهيمنة العسكرية والتكنولوجيا الغربية على كل الحضارات.
– استغلال الخلافات والصراعات بين الدول الإسلامية والكونفوشية (الصينية).
– الاستعداد الغربي لصراع مرير مع التحالف الإسلامي/ الصيني، لقهره ولو بالقوة ثم التعايش معه بعد ذلك!
ومن المهم ملاحظة أن “هنتنجتون” قد عاد بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001، يدعو إلى إدارة حرب داخل الإسلام، حتى يقبل بالحداثة والعلمانية الغربية والمبدأ المسيحي: “فصل الدين عن الدولة”، كما ورد في نيوزويك (شباط/ فبراير 2002)، وهو ما دعا إليه أيضا “توماس فريدمان”، الذي اعتبر أن الحرب الحقيقية في المنطقة الإسلامية هي في المدارس! وهو ما يجب أن يلفت الانتباه للأدوار المدعومة والمرسومة لدعاة الحداثة و”التكوين الفكري الجديد”، على أنقاض الثقافة والثوابت الإسلامية.
المصدر عربى 21