بقلم: مهندس يحيى حسين عبد الهادي
(هناك شئٌ عَفِنٌ في الدانمارك) .. منذ أن قالها شكسبير قبل أربعة قرونٍ على لسان مارسيلوس في رائعته (هاملت)، صارت هذه العبارةُ شائعةَ الاستخدام للتلميح أو التصريح بانتشار العَفَن (الفساد) في كثيرٍ من دول العالم.
المفارَقَةُ أن الدانمارك نفسها صارت هي الدولة الأقل عَفَنَاً أو فساداً على مستوى العالم،فقد احتفظت هذا العام للسَنَةِ السادسة على التوالي بتَصَّدُرِها دول العالم الداخلة في التقييم (١٨٠ دولة) بدرجة شفافية (٩٠٪) على مؤشر الشفافية (النزاهة) .. وهو المعروف بمؤشر مُدرَكات الفساد CPI الذي تُصدره منظمة الشفافية الدولية من مقرها في برلين .. وكما احتفظت الدانمارك بالمركز الأول، احتفظت الصومال بالمركز الأخير (١١٪) .. بينما فاحت روائح العَفَن في العديد من الدول، من بينها مصر التي احتلت المركز ١٠٨ بدرجة نزاهة ٣٥٪ (أيْ أنها راسبة) .. وهي نتيجة طبيعية لبلدٍ صار يحجز أماكن متأخرةً على كافة المؤشرات .. ولَم يَعُدْ الفسادُ فيه حدثاً عارضاً، وإنما هو اختيارٌ واضحٌ.
هناك إصرارٌ على الهبوط معه نحو قاع مؤشر الشفافية (والصعود بالتالى إلى قمة مؤشر الفساد .. الصعود إلى الهاوية) .. فالمؤشر يُلَّخِصُ رؤيةَ العالم لنا .. العالَمُ يرى مصر دولةً فاسدةً .. وليس فى الأمر مفاجأة .. فالعالم لا يقيس مستوى النزاهة أو العَفَن فى بلدٍ ما بتزكية مسؤوليه لأنفسهم ولا تنطلي عليه عباراتهم البرَّاقة عن الشرف والأمانة وانعدام الواسطة.
المقياس الوحيد المعتمد عالمياً لمكافحة الفساد هو مستوى الشفافية .. التي تعني بالبلدى أن يكون كل شئ فى النور .. لأن الفساد لا ينمو ويترعرع إلا فى الظلام .. وتتحدد درجة الشفافية في أي دولةٍ بناءً على تَقَّدُمِها أو تَأَّخُرِها على مؤشراتٍ فرعيةٍ متعددةٍ .. إذا تَقَّدَمَت فيها صَعَدَتْ إلى قمة النور .. وإذا تأخرَتْ هَبَطَت إلى قاع العَفَن .. منها على سبيل المثال لا الحصر:
١- قضاء قوىٌ ومستقلٌ استقلالاً لا شُبهة فيه، وتطبيقٌ صارمٌ للقانون على الجميع بلا استثناءات (احتلت مصر المركز ١٣٦ من ١٤٢ دولة في مؤشر العدالة “نزاهة القضاء وسيادة القانون” لسنة ٢٠٢٤).
٢- إعلامٌ حرٌ مستقلٌ (احتلت مصر المركز ١٧٠ من ١٨٠ دولة على مؤشر حرية الصحافة لسنة ٢٠٢٤).
٣– وجود برلمانٍ منتَخَبٍ انتخاباً حقيقياً ويمارس رقابةً حقيقية على السلطة التنفيذية ولا استثناء لفئة أو مؤسسة من المحاسبة (جيش/ شرطة/ قضاء … إلخ).
٤- الإفصاح عن الذِمَّةِ المالية للمسؤولين (رغم أن الدستور الحالي يُلزمُ الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء بنشر ذِمَمِهم المالية في الجريدة الرسمية، إلا أن ذلك لم يحدث مطلقاً طوال السنوات العشر الماضية).
٥- القوانين التي تحاصر الفساد (العالم لا يتخيل أن دولةً تصدر قانوناً ليس له شبيه فى تاريخ الأمم للتصالح مع لصوص المال العام وتكريمهم .. وهو قانونٌ لم تجرؤ حتى عصابات المافيا على إصداره لإدارة إجرامها).
٦- القوانين التي تحمي المُبَّلِغين عن الفساد (في تقريرٍ سابقٍ، ذكرت المنظمةُ ما حدث للمستشار هشام جنينة كنموذج صارخٍ).
٧- التزام الشفافية حيال العقود التى تبرمها الدولة وكافة أوجه الإنفاق العام والمشروعات الحكومية (أو ما يُسَّمَى بالمشروعات القومية) والميزانيات العامة.
ما سبق يصلح كجزءٍ من خارطة طريقٍ لاستعادة مصر لبهائها ذات يومٍ. رأيى أن تقرير الشفافية الأخير لا يدين الشعب .. فالتدهور فى البنود السابقة كلها مسؤولية النظام لا الشعب .. فمعظم المصريين يلاطمون الحياة ويبيتون على الطوى ولا يسألون الناس إلحافاً ولا يمدون أيديهم إلى مالٍ حرام.
وقد جاء في التقرير نَصَّاً (تذبذبت درجة النزاهة في مصر حول ٣٥٪ لأكثر من عقدٍ من الزمن، ولا تزال من بين الدول ذات الدرجات الأدنى في العالم في مؤشر سيادة القانون .. ومنذ عام ٢٠١٣ كان للجيش تأثيرٌ على عملية صنع القرار السياسي، ما أدَّى إلى تقويض القطاع الخاص بشكلٍ كبيرٍ والإسهام في الأزمة الاقتصادية .. وفي ديسمبر الماضي حصل الرئيس السيسي على فترةٍ رئاسيةٍ ثالثةٍ مدتها ست سنوات .. وقد اتسم عهده بإنفاقٍ مكثفٍ على البنية التحتية يفتقر إلى الشفافية وإلى استراتيجيةٍ اقتصاديةٍ قويةٍ .. وادَّى هذا النهجُ إلى زيادةٍ كبيرةٍ في الدَيْنِ الوطني). للأسف، يبدو أننا نسير بخُطىً سريعةٍ على الطريق .. إلى الصومال.