مقالات ورأى

أدهم حسانين يكتب: هل تُغيِّر غزة العديد من المفاهيم الاجتماعية في عالمنا ؟!

ما أشبه الليلة بالبارحة! بالأمس حوصر النبي المجاهد الشهيد في شعب أبي طالب ثلاث سنوات حتى اضطروا لأكل ورق الشجر. واليوم، تعيش غزة تحت حصار دام ما يقرب من عشرين عاماً.

هذا الحصار المفروض على غزة يعد شكلاً من أشكال العقاب الجماعي وينتهك القوانين الدولية، حيث ترك 62% من سكان القطاع في حاجة ماسة للمساعدات الغذائية، ورفع نسبة البطالة لتصبح من الأعلى في العالم كل ذلك قبل حرب التي يشنها الاحتلال اليوم؟ 

رغم ذلك، أسهم هذا الوضع الصعب في تطور المجتمع الغزاوي وبنيته الاجتماعية والسياسية في القطاع بطريقة طبيعية بعيداً عن التدخلات والوصفات الدولية الجاهزة لبناء المجتمعات. وربما أثر ذلك بشكل كبير على المفاهيم الاجتماعية وأحدث تغييرات جذرية في النسيج الاجتماعي في غزة. 

فالأزمات الإنسانية والصراعات الشديدة لا تظهر فقط أسوأ ما في الإنسان، بل تكشف أيضاً عن أنبل ما فيه. ففي ظل بعض الحروب والصراعات، تعيد بعض المجتمعات تقييم القيم والأولويات الاجتماعية، وتتحول إلى التكافل الاجتماعي والتعاون المجتمعي كوسيلة للبقاء ومواجهة الشدائد، كما رأينا في مواقف عديدة خلال الحرب الحالية الوحشيه المستمرة في غزة أو في الحروب السابقة التي مرت على القطاع .

ففي ظل الظروف القاسية والنقص الحاد في الموارد، تغيرت الأدوار التقليدية وظهرت مفاهيم جديدة للمسؤولية والصمود. فنجد أطفالاً في غزة اليوم يتحملون مسؤوليات تفوق أعمارهم بكثير؛ فنجد طفلاً لا يتجاوز السبع سنوات تجتاح جسده الجراح والدماء يقبل أخته الطفلة ويواسيها، وربما هما من الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم بالكامل جراء القصف المتواصل على مناطق قطاع غزة المختلفة.

بالتأكيد هذه ليست دعوة لتمجيد الحصار أو ادعاء أن الحرب تجلب الخير، لكن هي محاولة لفهم هذا الصمود الكبير في غزة وتأثيراته المجتمعية داخلياً وحتى خارجياً، لذا من المهم الإشارة إلى أن هذه التغييرات ليست دائماً سلبية؛ ففي بعض الأحيان، يمكن أن تؤدي الأزمات إلى تعزيز الوحدة والتضامن الاجتماعي، وتحفيز التطورات الإيجابية في المجتمعات. ومع ذلك، فإن الأثر الكامل لهذه التغييرات يعتمد على مجموعة معقدة من العوامل، بما في ذلك الاستجابات الإنسانية والسياسية للأزمة .

المأساة الإنسانية التي تحدث في غزة نتيجة وحشية الاحتلال الإسرائيلي أثرت بشكل كبير على التفاعلات الاجتماعية، ليس فقط في مجتمعاتنا العربية، بل أيضاً في المجتمعات الغربية. يمكن لأي شخص من موقعه أن يلاحظ هذه التغيرات، حيث نشهد خروج المسيرات الداعمة لفلسطين ونشاط المؤسسات التي تدعم حق الفلسطينيين في الحياة. كما لعب طلاب الجامعات النخبوية في أمريكا وأوروبا دوراً بارزاً في انتفاضات طلابية ضد استثمارات الجامعات الأوروبية والأمريكية في مشاريع إسرائيلية.

بالإضافة إلى ذلك، أعلنت العديد من الدول، خاصة في أمريكا الجنوبية، قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال. ومن بين الدول الأخيرة التي ستعترف بدولة فلسطين كل من أيرلندا وإسبانيا والنرويج، ليصل عدد الدول التي تعترف بفلسطين إلى أكثر من 144 دولة.

يبدو أن العديد من الدول والمجتمعات تعيد تقييم مواقفها ومبادئها في ظل ما يحدث في غزة، حيث دفعت هذه الحرب الكثيرين إلى إعادة التفكير في مفاهيم العدالة والإنسانية. لقد رأى الجميع ازدواجية المعايير التي تتبعها الحكومات الغربية، مما دفع المجتمعات، بما فيها المجتمعات الغربية التي كانت تجهل القضية الفلسطينية بسبب تأثير وسائل الإعلام المتحكم فيها من قبل بارونات المال الداعمين للسردية الإسرائيلية على مدار عقود من احتلال فلسطين، إلى تبني أساليب أخرى للاعتراض والتضامن مع القضية الفلسطينية أكثر تأثيراً، مثل المقاطعة والمقاومة.

يمكن ملاحظة ذلك من خلال النظر إلى ردود الفعل على حملات المقاطعة، حيث حاولت العديد من الشركات العالمية نفي علاقتها بإسرائيل عبر حملات دعائية، بينما اعترفت شركات أخرى بهذه العلاقة. نتيجة لذلك، أصبح الأوروبيون والأمريكيون يحملون على هواتفهم تطبيقات تساعدهم في معرفة ما إذا كانت المنتجات التي يشترونها تدعم الاحتلال أم لا. 

عودة مفهوم المقاومة ككفاح من أجل التحرر إلى معناه الحقيقي كحق مشروع للشعوب المقهورة والمستعمرة لتقرير مصيرها، أصبحت أكثر وضوحاً. نرى اليوم شعارات في أوروبا تنادي بتحرير فلسطين بأكملها، وليس فقط غزة والضفة. وأصبح رموز المقاومة أبطال تحرير في أعين الكثيرين حول العالم، وليس فقط العرب. نرى الأطفال في شوارع العالم يرتدون قمصاناً مزينة بعلم فلسطين أو الكوفية، وينادون من أجل فلسطين وشعبها.

الحرب في غزة لا تغير غزة أو منطقتنا فقط، بل تغير العالم بأسره وبقوة؛ إذ ستذهب التأثيرات إلى أبعد من السياسة، إلى تحولات جذرية في جميع جوانب الحياة ربما سنرى نتائجه في المستقبل القريب. فالعالم بعد 7 أكتوبر الماضي ليس كما كان قبله.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى