مقالات ورأى

طارق الزمر يكتب: كيف أسست “طوفان الأقصى” لخرائط سياسية جديدة؟

ليس هناك شك في أن الحقائق الشفافة والمعايير العادلة، تجعل من عبور السابع من تشرين الأول/ أكتوبر انتصارا تاريخيا من العيار الثقيل، فضلا عن صمود المقاومة والشعب الفلسطيني في مواجهة عدوان وحشي ليس له نظير في العصر الحديث، وذلك بطبيعة الحال في ضوء القراءة الواقعية لتاريخ الصراع العربي الصهيوني، وتداعيات النظام الدولي، واللحظة التاريخية الراهنة.

وبرغم هذا الانتصار التاريخي الذي لا تخطئه عين، إلا أنه لم يعدم خصوما من بني جلدتنا، يتحدثون بألسنتنا، فلا زال بعضهم يصور أن انتصار حركات التحرر الوطني على الاحتلال الأجنبي، لا بد وأن يتضمن تفكيك جيشه وإبادة جنوده! وهو مفهوم غريب للانتصار، ولا يصلح أن يكون معيارا قابلا للتطبيق على حركات المقاومة والتحرر الوطني، حيث لو فعلنا، لما أثبتنا لها أي انتصار على طول التاريخ، بل ودعوناها للاستسلام لقوة الاحتلال، التي غالبا ما تكون هي الأقوى. فالاحتلال الأجنبي في أحد أهم مظاهره، هو تعبير عن فائض في قوة الدولة تقوم بتفريغها بالاستقواء على دولة أخرى، فتحتل أرضها وتستنزف مواردها وفق مصالح استعمارية.

كما أن الحقائق التاريخية تؤكد أن انتصار المقاومة في غزة، هو انتصار بكل المعايير، الاستراتيجية والثقافية والسياسية والحضارية والأخلاقية والميدانية، وأنه قد تحقق بالفعل ولا يحتاج للمزيد، كما أنه جاء والمنطقة والعالم في أمسّ الحاجة إليه، والأهم أنه انتصار وفق معايير انتصار حركات المقاومة والتحرر الوطني، التي يكفيها لكي تكون منتصرة: استمرار قدرتها على الحضور العسكري والسياسي، واستمرار الحفاظ على الحاضنة الشعبية، واستمرار القدرة على توسيع دائرة الأنصار واكتساب الحلفاء، وبالجملة: “استمرار قدرتها على الحفاظ على مشروع المقاومة حيّا”؛ لأن الزمن والتاريخ حتما لصالحها، ومن خلال هذا المعيار التاريخي، الذي انتصرت من خلاله كل حركات المقاومة الشعبية عبر التاريخ، يمكن أن نرى الانتصار الكبير للمقاومة الشعبية على أرض غزة الباسلة.

فعند محاولة تلمس أهم ملامح هذا الانتصار، سنجد العديد من الملامح والمظاهر، ابتداء من الهجوم الناجح (المباغت- السريع- على أرض العدو)، الذي نسف نظرية الأمن الإسرائيلي، وهدد أهم أركان وجود الدولة اليهودية، وأسطورة الجيش الذي لا يُهزم، وبدد الحلم الصهيوني، وصولا للهجرة العكسية، التي بدأت تتوالى أخبارها، فضلا عن المخيمات التي تشهدها إسرائيل لأول مرة. كما لا يخفى كشفه لمدى الخلل والهشاشة التي تمر بها القيادة الإسرائيلية والأمريكية على السواء، بل وإرباكه للحسابات الاستراتيجية الأمريكية، التي فشلت في إيجاد مسافة بينها وبين العدوان الصهيوني، حيث تماهت معه واصطفت إلى جواره بشكل فاضح.

لقد كشفت عملية “طوفان الأقصى” عن الخطر الوجودي، الذي اعترف به قادة الغرب، حيث أكدوا أن إسرائيل أصبحت مهددة به أكثر من أي وقت مضى، وهو ما أظهر هشاشة المشروع، ومن ثم الحديث عن قرب زوال الدولة. وربما لو تأملنا في مشهد استدعاء حاملات الطائرات الأمريكية والبريطانية والغواصات النووية على عجل، للوقوف على سواحل إسرائيل، وكذلك قدوم الرئيس الأمريكي بنفسه ليشارك في مجلس الحرب الإسرائيلي، ثم وقوفهم جميعا بجوار إسرائيل لنصب شبكة دفاعية ضد الصواريخ والمسيّرات الإيرانية في ١٤ نيسان/ أبريل، لعلمنا حجم حاجة إسرائيل للشعور بالأمان بعد الفوبيا التي أصابتها في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.

ولم يقف الأمر عند هجوم المقاومة العسكري الناجح، بل تم تتويجه “بالصمود” الشعبي والعسكري الأسطوري وفق الحسابات العسكرية والاستراتيجية، وذلك أمام أعتى آلة عسكرية في منطقتنا، بل وأعقد التقنيات في العالم، كما تمت إدارة “معركة دفاعية” أذهلت العالم، حيث إن أهمية مفاجأتها لا تقل عن المفاجأة الهجومية في يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فضلا عن الاستمرار في قصف العمق الإسرائيلي، برغم عمليات التدمير الواسعة التي نالت القطاع.

نجاح المقاومة -برغم صعوبة المعركة- في توزيع مظاهر المقاومة والنصر على محافظات القطاع، فكل غزة تقاوم، بل إن المناطق التي أعلن الاحتلال أنه قد دمرها أو تمكن منها، فإنها تنتفض للمقاومة من جديد، وهو ما ظهر في الشمال بشكل واضح.

الإيقاع بالجيش الصهيوني في “شراك خداع القوة وغطرستها”، حيث اندفع بكل قوته للانتقام دون خطة حقيقية أو تعريف محدد للنصر، لهذا لم يظفر بنصر حقيقي، ولم يستطع إقناع أحد بأنه يبحث عن نصر، فالانتقام من المدنيين وخاصة الأطفال والنساء لا يعد نصرا بحال، بل إن غطرسة القوة جعلته يتهم الفلسطينيين بالحيوانات! ومن ثم عدم التجهز لهم بشكل كاف فهم الأقل ذكاء، ومن ثم الوقوع في خسائر عسكرية فادحة، ربما لم يعرفها من قبل. كما كان لغرور القوة دور مهم في كشف وحشية المشروع الصهيوني الاستيطاني العنصري، ومن ثم تفكيك التعاطف العالمي الزائف معه، وهو ما عبّر عنه بايدن بأن “إسرائيل تفقد الدعم في جميع أنحاء العالم”.

كما نجحت المقاومة في استثمار أخطاء العدو، وخاصة توظيفها لإفراطه في استعمال القوة، وتدمير المدن وقتل الأطفال والنساء، وذلك بتحويلها لطاقات غضب إضافية، ضخّتها في شرايين المقاومة والتعبئة الشعبية، وحرمان العدو من مخططه الذي يهدف لقهر شعب غزة، وهزيمته معنويا، فلم يظفر بالمقصود.

نجاح المقاومة في توظيف عملية تبادل الأسرى لصالح إبراز “أخلاق المقاومة الإسلامية”، من خلال حسن تعاملها مع الأسرى ووداعهم الرحيم والحميم، حيث تلقفتها شعوب العالم بتشوف وإعجاب، وذلك في ظل زحمة صور حملات التوحش التي يديرها الجيش الصهيوني، فضلا عن التعذيب والتعتيم على عمليات إفراجه عن السجناء الفلسطينيين، وهو ما مثل ردّا غير مباشر على الحملات القاتمة التي صدرها الإعلام الغربي عن صورة الإسلام خلال العقدين الأخيرين، كما أنها أحرجت العمليات المستمرة لملاحقة المقاومة بوضعها على قوائم الإرهاب، برغم إصرار بايدن ونتنياهو والآلة الإعلامية الضخمة التي تعمل لمصلحتهما على دعشنة المقاومة، كما نجح التوظيف الإعلامي لعملية تبادل الأسرى في دحض سردية الاحتلال بخصوص نجاح عملياته العسكرية، حيث خرجت المقاومة بالرهائن على أرض غزة من المحافظات كافة، وخاصة شمال القطاع.

نجحت “طوفان الأقصى” في الوصول بتأثيرها العميق للأجيال الجديدة عبر العالم -ولا سيما في الغرب-؛ حيث انتفض الشباب انتصارا للمقاومة والتحرر الوطني في مواجهة وحشية الجيش اللاأخلاقي، كما انتصر لحق الشعوب في الحرية والاستقلال، وجعل حرية الشعب الفلسطيني قبلته.

كما وضعت “طوفان الأقصى” العالم أمام عولمة جديدة، حيث عولمة “ثقافة المقاومة” والانتصار لحركات التحرر، والوقوف صفا واحدا ضد وحشية الاحتلال العنصري والحروب غير الأخلاقية.

لقد نجحت “طوفان الأقصى” في توظيف الإعلام البديل بصورة غير مسبوقة للانتصار للقضايا العادلة، وأصبح ميدانا حقيقيا للصراع بين “المستضعفين” و”المستكبرين”، ولهذا شاهدنا لأول مرة انتصار سردية “المقاومة” في مواجهة “الاحتلال”، بعد أن كانت هيمنة الميديا العالمية قد احتكرت سردية “الإرهاب” في مواجهة “الحضارة”، وهو ما يرجع الفضل فيه للسوشيال ميديا التي هزمت الميديا العالمية المسيسة، وهو ما يضع العالم أمام مرحلة جديدة لها ما بعدها.

أعادت “طوفان الأقصى” الوعي لقطاعات مهمة من مجتمعاتنا، كانت واقعة تحت تأثير الضغوط الهائلة لعمليات السلام الزائف وضرورة التطبيع، وذلك بعد ما كشفت إسرائيل ومن خلفها أمريكا عن عدوانية بلا حدود، مما أكد أن التطبيع والسلام لم يكونا غير قناع لاستلاب الحقوق الفلسطينية، والتمكن من كل مفاصل المنطقة. ولهذا، رأينا الاعتذار المنطقي للدكتور أسامة الغزالي وتبريره الجاد لتغيير موقفه من التطبيع، وهو ما يعظم من أولوية محاصرة التطبيع وفرصة نجاحه اليوم أكثر من أي وقت مضى.

لقد وضعت “طوفان الأقصى” الأمة وكياناتها الحية أمام فرصة تاريخيّة، إذا أحسنت استثمارها فإنها يمكنها أن تنتصر لكل قضاياها وكل شعوبها، بل وكل شعوب العالم المهمشة، كما يمكنها أن تتخلص من كل مظاهر التبعية وتتحرر من تغلغل المشروع الأمريكي الصهيوني في كل مفاصلها.

لقد خلقت “طوفان الأقصى” استقطابا عالميا، وأوجدت حالة شعبية عامة، وولدت طاقات فكرية هائلة، تحتاج إلى بناء أطر ثقافية وسياسية تنطلق من حواضر عالم الجنوب، ويقوم من خلالها شبابنا ببناء “تيار عالمي جديد” و”شبكات عابرة للحضارات”، تبشر “بعالم جديد”، ينتصر للمهمشين والمظلومين، في الجنوب والشمال على حد سواء.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى