منذ استهداف “نتنياهو” وجيش الاحتلال الإسرائيلي “لرفح”، واحتلاله “لمحور صلاح الدين” على الحدود المصرية، والذي أدى مؤخرا لوقوع الاشتباك بين القوات المصرية والإسرائيلية،
ومقتل وإصابة جنود مصريين، بدأت بعض الأطراف تدرك ما لم تكن تدركه منذ شهور، وهو أن الحرب على غزة تهدف لرسم خرائط جديدة في المنطقة، كما تستهدف الأمن القومي المصري بشكل واضح، فضلا عن دورها الإقليمي الذي أصبح في أدنى درجاته، ولا سيما بعد اغلاق المعبر، وتشغيل الرصيف العائم.
ومن هنا عادت قضية الأمن القومي والدور الاقليمي المصري لتحتل واجهة الأحداث، ومن هنا وجب مراجعة مخطط استهدافه الذي خطا أهم وأخطر خطواته منذ “كامب ديفيد” ١٩٧٨،
وصولا لما يجري اليوم، وذلك في محاولة لوضع حد لعمليات الاستهداف الممتدة، ووضع تصور لاستعادة ما تم الاعتداء عليه وما تم قضمه بالفعل، وذلك ابتداء من الجبهة الشمالية الشرقية بالغة الأهمية.
المتأمل في أحوال العالم العربي خلال العقود الأربعة الأخيرة، وتحديدا منذ “كامب ديفيد”، يجدها قد وضعت نصب عينيها، كما كان واضحا منذ البداية، عزل مصر عن محيطها العربي، في إطار مخطط يهدف لتفكيك دورها الإقليمي،
ومن ثم الانفراد بالإقليم بالقطعة، حيث تكون القيادة المصرية قد تلاشت، وأصبحت الدولة غارقة في مشكلاتها المصنوعة، والتي تصب هي الأخرى في تفكيك بنيتها السياسية، وتمزيق روابطها الاجتماعية، وصولا لتقسيمها.
ولأن تأثير غياب دور مصر الإقليمي، أصبح هو الأبرز والأخطر، لارتباطه بالكوارث الاستراتيجية والسياسية التي تتعرض لها المنطقة العربية، وفي القلب منها القضية الفلسطينية، فإن الواجب يلزمنا أن نولي هذا التغييب المتعمد الاهتمام الأكبر، وذلك في ضوء تنامي الحضور الإسرائيلي على حسابه،
بل وخروج إسرائيل من دوائر حصار كثيرة لم يعد لها مبرر بعد تطبيع “السادات” العلاقات مع إسرائيل، وفي هذا الإطار أيضا جاءت الاتفاقيات العربية المنفردة مع إسرائيل، أسوة بالاتفاقية المصرية، ومن ثم أخذت المخططات الإسرائيلية مداها، حتي رأينا تصدع بنية العديد من دول الوطن العربي، وفق المخطط الصهيوني ذاته.
بداية لابد وأن أشير إلى أنه من السذاجة بمكان أن نتصور أن زيارة السادات المخططة سلفا لإسرائيل (نوفمبر 1977)، ثم مفاوضات السلام في “مينا هاوس” (في الشهر التالي)، ثم اتفاقيات “كامب ديفيد” المصرية الإسرائيلية الأمريكية (1978)، ثم “معاهدة السلام المصري الإسرائيلي” (1979)، كانت لبناء سلام حقيقي في المنطقة،
بينما كان معروف سلفا أن كافة الأطراف العربية حينها سوف ترفضها، وهو ما تم بالفعل وكان له تأثير مدمر على بنية الموقف العربي، فضلا عن تحطيم الجدار الصلب الذي كان يحول بينه وبين الخضوع للشروط الأمريكية الصهيونية، التي كانت واضحة بشكل كبير، وخاصة بعد أن تهشم العمود الفقري للصمود العربي،
وبدأت مسارات الحلول المنفردة (أوسلو ـ وادي عربي)، والتي تدخل ضمن ثوابت المخطط الصهيوني الذي يلح منذ وقت مبكر على الحلول المنفردة! وذلك في إطار العمل على اختراق المنطقة وتحطيم إرادتها، تمهيدا لتحقيق كل الأهداف بسهولة.
فالولايات المتحدة على سبيل المثال، لم تكن تهدف من رعاية عملية السلام “الإسرائيلي| المصري”، سوى تعميق مساحات تأمين إسرائيل، وعزل مصر عن محيطها العربي،
وبناء تحالف استراتيجي معها، وتفكيك الموقف العربي بالتبعية بعد خروج مصر، والتعامل مع كل دولة بمفردها (كما بالمثل المصري: كل واحد يتعلق من عرقوبه!)، ومن ثم تهميش واضعاف الفلسطينيين، فضلا عن محاصرة دور الاتحاد السوفيتي في المنطقة.
وفي هذا الإطار جاءت زيارة السادات لإسرائيل، والتي شاهدتُها على الهواء مباشرة، حزينا صحبة والدي، الذي كان يبكي يومها صراعا طويلا سلمنا في نهايته بكل شروط المحتل، وقد كنت يومها في بداية مرحلتي الجامعية،
وكان للزيارة أثر مدوي في العالم العربي (الشعبي والرسمي)، الذي وقف مشدودا مشدوها لما يجري! ومن ثم بدأت مسيرة عزل مصر سياسيا، حيث الخروج من “الجامعة العربية”، ثم “منظمة المؤتمر الإسلامي”، ثم منتديات عالم “عدم الانحياز”.
قادتني قدماي مدفوعا بالقلق والغضب المكتوم، أن احاول مشاهدة ما يجري في فندق “مينا هاوس” الذي كان قريبا من منزلي، وذلك عن طريق اصطناع زيارة للأهرامات، حيث لابد وأن أمر من أمام الفندق، ورأيت بعيني تجهيزات ما يبدو أنه فيلم يجري تصويره، والذي لخص الحكاية مبكرا،
حيث رأيت الإعلام العربية منصوبة خارج الفندق(منظمة التحرير ولبنان وسوريا والاردن) وهي الأطراف العربية التي كانت مدعوة للمؤتمر، وكانت دعوتهم شكلية ـ بطبيعة الحالـ لإنه كان من المعلوم سلفا أنها لن تحضر، لأن المسار كان من البداية مُهندس بالكامل بين السادات وأمريكا وإسرائيل، ومطلوب جر العرب جميعا للمساحات التي سيرسمها لهم الاتفاق!!
ومن المفارقات الكاشفة للنوايا الإسرائيلية يومها، والتي تضع لائمي غياب الطرف الفلسطيني في حرج بالغ، أن الوفد الإسرائيلي رفض دخول القاعة إلا بعد إزالة العلم الفلسطيني منها، وهو الموقف الذي يعبر عنه “نتنياهو” والعصابة المشاركة معه في حكومته اليوم بشكل أكثر وقاحة، حيث الرفض الكامل لفكرة الدولة الفلسطينية، أو حتى مجرد الحكم الذاتي، الذي كان موعودا آنذاك!
وربما كان هذا السيناريو واضحا، منذ إعلان السادات عن نيته زيارة إسرائيل، وذلك في خطابه الشهير داخل البرلمان المصري، الذي أمعن فيه السخرية والاستهزاء، حين دعا إليه عرفات! الذي لم يكن يعلم بنية السادات المبيتة،
وهو ما بدا في ارتباكه وتردده، ما بين التصفيق الذي ساد القاعة مع إعلان السادات نيته، وبين التلفت يمنة ويسرة وكأنه يسأل مستنكرا: ما هذا الذي يحدث؟! وبعدها بدأت قطيعة فلسطينية مصرية، لم يقطعها إلا غياب السادات عن المشهد.
فقد كان واضحا أن السادات يعلم طريقه جيدا، وأنه يحاول جرجرة العالم العربي خلفه ـ أو (كلفتته) كما بالعامية المصريةـ وهو ما كان متوقعا أن يؤدي للتشرذم العربي الذي حدث، وهو ما لم يكن بعيدا منذ البداية ـ كما أشرناـ عن العقل الأمريكي الإسرائيلي،
وهو يخطط للسلام المنفرد مع مصر، وذلك ربما منذ دخول “كيسنجر” على الخط في مفاوضات “فض الاشتباك الأول”، واكتشافه لشخصية السادات في أسوان في يناير ١٩٧٤، حيث تحصل على ما لم يكن يحلم به، ودون أن يكون لمؤسسات الدولة في القاهرة أي علم، بما يجري بعيدا في أسوان!
وهو ما أدهش وزير الخارجية “إسماعيل فهمي” ومستشار الأمن القومي “حافظ إسماعيل”، وهو ما بكى له الفريق “الجمسي”، حيث قد ظن ثلاثتهم أن “السادات” قد استدعاهم لأسوان كي يستشيرهم فيما يجري بينه وبين “كيسنجر”، فإذا بكل شيء قد تم دون حتى اخطارهم، والفاجعة الأكبر أن من أخطرهم بالاتفاق هو “كيسنجر” وليس “السادات”!
“مفاوضات كيسنجر| السادات” في أسوان كانت هي المؤشر الأهم لإمكانيات ترويض النظام المصري، وتقليص المساحات التي كانت تحتلها الدولة المصرية في الساحات العربية،
وليتمدد بالتبعية خلال ذلك المشروع الصهيوني بأريحية، حيث وجد فرصته التي لا تعوض، فقد تمخضت المفاوضات الأولية، عن تقليص أعداد المدرعات في سيناء إلى ٣٠ فقط، وتقليص عدد القوات من ٧٥ ألف إلى ٧ ألاف، فضلا عن العدد المحدود من قطع المدفعية، وهو ما لم يكد يصدقه “إيبان” وزير الخارجية الإسرائيلي عندما أبلغه كيسنجر.
الحقيقة أن هزيمة ١٩٦٧ على ضراوة أثرها على دور مصر الإقليمي، لم تستطع أن تفعل ما فعلته المفاوضات التي بدأها السادات مع كيسنجر في أسوان،
والتي تم تتويجها “بكامب ديفيد” ثم “اتفاقية السلام”، التي استكملت أهدافها فيما يتعلق بدور مصر الإقليمي في عصر الرئيس “حسني مبارك”، الذي كان في هذا السياق، يتعامل كما لو كان مجرد موظف بوزارة الخارجية،
ليس أمامه أي مساحة للمناورة، فضلا عن حذره الشخصي المعروف، واداركه المبالغ فيه للدور الأمريكي بالمنطقة، الذي ورثه من رئيسه السادات، الذي بدوره لم يجد أفضل منه نائبا له.
وكما كان لتراجع دور مصر الإقليمي، والفراغ القيادي الذي أحدثه، تأثير كبير على أوضاع المنطقة، والكثير من الكوارث الاستراتيجية التي أصابتها، فإنه قد أسهم بشكل أكبر في تدهور مقدرات الأمن القومي،
فضلا عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، التي وصلت لدرجات خطيرة من التدهور، وذلك على عكس الوعود المصاحبة “لكامب ديفيد”.
فقد استطاعت إسرائيل أن تستغل اخراج مصر من دائرة الصراع، لتنفرد بباقي الملفات العربية، مستخدمة العربدة تارة، واتفاقيات السلام تارة، وهو ما بدا بشكل مباشر وغير مباشر إهانة لمكانة مصر،
وتقزيم لدورها التقليدي بالمنطقة، كما استطاعت إسرائيل أن تستغل الموقع الجديد، لتتجاوز حصارها في مناطق عديدة من العالم، بل وتحاصر الدور المصري والعربي فيها.. وقد أستمر الدور الإقليمي خلال العقد الأخير في التدهور،
مخلفا فراغا قياسيا، تتصارع عليه عدة قوى، كما أصبحت العديد من الدول والمكونات السياسية الهامشية بالمنطقة، تحتل مكانة وأدوارا أكبر بكثير من حجمها، بالاستفادة من الفراغ القيادي التي خلفته مصر.
وبرغم ذلك فلازالت الدولة المصرية بمقدورها ـ إذا أرادتـ استعادة الكثير من أدوارها، استنادا للظروف والمستجدات، كما للمقومات الذاتية التي تمتلكها، والتي لا تفتعلها ولا تتكلفها، كما تفعل بعض الأطراف الأخرى.