مقالات ورأى

آية حجازي تكتب: ماذا لو كنت صهيونية؟

بعد ستة أشهر من حملة الإبادة التي شنها الكيان الصهيوني على مرأى العالم ومسمعه، بتواطؤ قادته على فلسطين وعلى المقاومة في البقعة الصغيرة المحاصرة -غزة- سلم الكثير منا بأن القضية الفلسطينية “تتصفى أمام أعيننا”.  ثم جاء تميم البرغوثي ليسأل “هل يزال تحريرها كلها ممكنا؟”، ويجيب بنعم في محاولة لبث روح التفاؤل من جديد. اعتمد تميم في تفاؤله على الأوضاع داخل الكيان، وبداية تآكله من الداخل، إلا أنني كننت جزءا كبيرا من حالة التشاؤم. فما زالت أهم ركيزة لبقاء الكيان،  قوة عظمى حاضنة (الولايات المتحدة)، مستمرة في دعمها الكامل الشامل له.

ورغم أني غردت كثيرا منذ ٧ أكتوبر عن بداية تغيير الدفة في الولايات المتحدة لصالح القضية، إلا أنني طوال الستة أشهر الأولى لم أرَ تغيرا جوهريا ومؤثرا. كان التغيير واضحا وموجودا لاشك؛ لكنه ليس كافيا البتة ليبعث أملا مبنيا على الواقع -وليس مجرد الإيمان المطلق- بإمكانية أو اقتراب التحرير، سواء الجزئي أو الكامل.

وبالفعل، حين تكلمت مع صديق متضامن مع القضية من داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية، شاركني تشاؤمه. وحين عكفنا نفتش عن أمل، وجدنا حلما بعيداً، يدعى الطلبة، “من أوقف حرب فيتنام الدامية حينها كانوا الطلبة. انتفاضتهم، وما كلفوه للحكومة، هو الذي أنهاها أخيرا”.

تنهدت بحزن حينها، حرب فيتنام استمرت عشرة سنوات، هل ستصمد غزة الصغيرة عشرة سنوات أخرى، بعد خمسة عشر من الحصار، و خمس وسبعون من المعاناة المستمرة في كامل تراب فلسطين؟ وهل هو محض أوهام أن ينتفض الطلبة في الولايات المتحدة لغزة وفلسطين كما انتفضوا لفيتنام؟ ففي فيتنام كان الجيش الأمريكي نفسه منغمساً في الحرب حينها، ودماؤه جنوده وضباطه تسيل هناك، وهذا ليس هو الحال في فلسطين.

علاوة على ذلك، وعلى نقيض الوضع في فيتنام،  فإن الصهيونية ليست مسيطرة فقط على المؤسسات الأمريكية بحكومتها وكنائسها ومعابدها وإعلامها، بل أيضا على نسيج المجتمع الأمريكي، بداية من إحساسه العميق بالذنب إزاء المحرقة، لتقاربه وتعاطفه مع المجتمع “الإسرائيلي”-  الأشكنازي الأوروبي الأبيض- ” البؤرة الديموقراطية في غابة التخلف والديكتاتورية في الشرق الأوسط” كما يصفونها! فكيف لفلسطين، ولغزة العربية، ذات الأغلبية المسلمة والمقاومة الإسلامية، لتحرك الجامعات الأمريكية؟ بدى ذلك لي ولصديقي محض خيال أو حلم. لكن، من يدري!

من كان يصدق أنه في خلال عدة أشهر، ستنتفض جامعات أمريكا من شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها، لأجل فلسطين! وأن آلاف الطلبة، والعديد من أعضاء هيئات التدريس معهم، سيتعرضون للقبض، والفصل من الدراسة، والضرب، والتهديدات بالملاحقة الأمنية وفقدان الوظائف، من أجل فلسطين، التي عكفت الصهيونية على شيطنتها ومحوها من الوعي الأمريكي لعقود!

كان التغير مدويا ومزلزلا لدرجة أن الطبقة الحاكمة  لم تصدق ما رأت، خير ما يلخص استغرابها  هو لقاء السيناتور ميت رومني مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن، حيث تباحثا ما يبدو لهما لغزاً، “كيف خسرت إسرائيل معركة الرواية، وهي التي تجيدها؟”

وبينما عكف المتصهينون والمتخاذلون على التتفيه من هذا الحدث المزلزل في الداخل الأمريكي، استنادا لمنطق “وكيف لبعض من الطلبة بالتصدي لمطامع أكبر إمبراطورية في العالم”، سأستدل بإجابتي بشاهد من أهلها، السيناتور ماركو روبيو الذي غرد على حسابه في منصة إكس: “الوضع في غاية الخطورة، تلك الجامعات هي التي تنتج رؤساء وقضاة وأعضاء برلمانات المستقبل”، أي باختصار، هم من يصنعون ويملكون المستقبل.

ورغم أن المآلات الأهم لهذا التغير تبدو مستقبلية، إلا أن المعارك التي يحققها الطلبة على الأرض وفي الحال لا تقل أهمية. ومنها، النصر المادي من خلال تحقيق مطلب إنهاء الاستثمارات والشراكات مع إسرائيل “divestment”، التكلفة المتزايدة على الشرطة وميزانية الجامعات والمدن والتي قد تمتد للولايات والحكومة الفدرالية، والعزل الذي يطال  المجتمع “الإسرائيلي” المحتل، سواء داخل الأراضي أو خارجها.

 أما عن النصرة المعنوية فتكمن في أمرين، الأولى هي عكس المعادلة التي كانت ثابتة لعقود، فبعدما كانت الصهيونية قد عزلت الفلسطينيين وعملت على محوهم وشيطنة نضالهم أصبح الصهاينة هم المعزولين والمشيطنين، لكن هذه المرة بحق!

جولة واحدة في اعتصام جامعة جورج واشنطن -الذي تم فضه-  بعد ما رأيت زخمه وتنوعه وإباءه، جعلتني أتساءل: “إن كنت صهيونية، ما ذا سيكون شعوري اليوم، وأنا أرى الجامعات في معقل العاصمة ومعقل الولايات المتحدة “in the belly of the beast” كما يقولون، كلها مناصرة للقضية الفلسطينية؟ هل فعلا أصبحت وحدي؟ هل فعلا أصبحت مكروها وشريرا؟ النصر يأتي عندما لا تكون وحدك، والفلسطيني اليوم لم يعد وحده. فبينما بات الصهيوني معزولا على مستوى الشعوب، أصبح الفلسطيني يحظى بتعاطفها وتضامنها، في قلب المدن الأمريكية ومصانع حضارتها بل أصبح ضمير “أرض العدو” معه!

 أما عن الدرجة الثانية في النصرة المعنوية، فهي انتصار القضية الفلسطينية في معركة الرواية. وبينما لا أرغب بإعطاء صورة وهمية عن نصر مفترض، حيث  إن الصهيونية ليست وحدها، فسلاح العالم وماله معها، لكن في المقابل؛ فضمير ضمير العالم، وضمير الشعب الأمريكي، قد عرفا الرواية الصحيحة. وكما يقول إدوارد سعيد: “المعركة الرئيسية في الإمبريالية تدور حول الأرض بالطبع؛ ولكن عندما يتعلق الأمر بمن يملك الأرض، ومن له الحق في الاستقرار والعمل عليها، ومن يحافظ عليها، ومن يستعيدها، ويخطط لمستقبلها – فإن هذه القضايا، تنعكس، ويتم التنازع عليها، وحتى لبعض الوقت تقرر في الرواية”. واليوم باتت الرواية السائدة  في ضمير الولايات المتحدة، حاضنة الكيان، تعترف بالحق للفلسطينيين، وليس للصهاينة.  ولذلك، أستطيع القول، استنادا على واقع، وليس أحلام الناشط أو إيمان المقاوم فحسب، إن تحريرها كلها مازال ممكناً، من النهر إلى البحر.

النصر لفلسطين. النصر للمقاومة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى