هل تتحمل مصر- دولة وشعبا- أن يكون بجوارها اللصيق- وبغض النظر عن الموقف من حماس أو المقاومة أو الحقوق المشروعة للفلسطينيين- هذا التطرف اليميني الاسرائيلي؟ الولايات المتحدة- ذات العلاقات المرتكزة إلى دعائم قوية في المصالح والقيم المشتركة والدعم الداخلي- لم تتحمل هذا التطرف اليميني. في خطاب استثنائي، ألقاه زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر- أبرز مؤيدي إسرائيل في الكونجرس، وأرفع مسئول يهودي في واشنطن- دعا إلى إجراء انتخابات جديدة وحكومة جديدة.
لكن هل المشكلة في نتنياهو، وحكومته- كما يحاول البعض أن يروج- أم في المجتمع الإسرائيلي الذي يتطرف يمينا، وفي السياسة والروح العسكرية للجيش الاسرائيلي، التي باتت تستند إلى تحول عميق يقوم على ثقافة “تعامل غزة كمنطقة إطلاق نار حرة مع الإفلات التام من العقاب على الهجمات الجسيمة على المدنيين”، كما قال جيريمي كونينديك، رئيس منظمة اللاجئين الدولية الذي خدم في كل من إدارتي أوباما وبايدن؟
ترصد لنا ميجان ك. ستاك- كاتبة الرأي ومراسلة النيويورك تايمز بالشرق الأوسط- كيف تتحول الرؤية في إسرائيل إلى قاتمة؟
في مقالها https://www.nytimes.com/2024/05/16/opinion/israeli-palestine-psyche.html الذي نشر ١٦ مايو /آيار الجاري، تقدم لنا هذه الحقائق:
١- لقد أصبحت إسرائيل أكثر تشددا. الزحف نحو اليمين طويل الأمد؛ سببه التركيبة السكانية، حيث ينجب اليهود الأرثوذكس المعاصرون والأرثوذكس المتطرفون (الذين يصوتون بشكل كبير مع اليمين) عدداً أكبر من الأطفال مقارنة بمواطنيهم العلمانيين.
٢- وجدت استطلاعات الرأي تأييدا واسعا للسياسات التي أحدثت الخراب والمجاعة في غزة. المذبحة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، والمجاعة الزاحفة، والتدمير الشامل للأحياء… هذه هي الحرب التي أرادها الجمهور.
94% من اليهود الإسرائيليين، قالوا-في يناير من العام الحالي، إن القوة المستخدمة ضد غزة كانت مناسبة، أو حتى غير كافية. وفي شهر فبراير، أظهر استطلاع آخر، أن معظم اليهود الإسرائيليين يعارضون دخول الغذاء والدواء إلى غزة.
٣- في الأعوام الأخيرة، تراوحت مواقف العديد من الإسرائيليين في التعامل مع “المشكلة الفلسطينية” إلى حد كبير بين الإرهاق المنعزل وبين الاعتقاد المتشدد، بأن طرد الفلسطينيين من أرضهم وإخضاعهم هو عمل الله.
الدور الذي لعبته إسرائيل في تخريب عملية السلام من خلال الاستيلاء على الأراضي وتوسيع المستوطنات معروف، لكن شيئاً أوسع نطاقاً قد ترسخ – وهي صفة وصفها الإسرائيليون، بأنها إنكار فاتر ومنفصل حول موضوع الفلسطينيين برمته. قالت تمارا هيرمان: “قضايا المستوطنات أو العلاقات مع الفلسطينيين كانت خارج الطاولة لسنوات”. “كان الوضع الراهن مقبولاً بالنسبة للإسرائيليين”، والسيدة هيرمان، هي زميلة أبحاث رفيعة المستوى في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، وهي واحدة من أكثر الخبراء احتراماً في اسرائيل، فيما يتعلق بالرأي العام الإسرائيلي.
وأضافت: أنه في السنوات الأخيرة، نادرا ما لفت الفلسطينيون انتباه اليهود الإسرائيليين. قامت هي وزملاؤها بشكل دوري بإعداد قوائم بالقضايا، وطلبوا من المشاركين ترتيبها حسب الأهمية. قالت إنه لا يهم عدد الخيارات التي قدمها منظمو الاستطلاعات- فحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، جاء في المرتبة الأخيرة في جميع المقاييس تقريبًا.
٤- الخرائط من النهر إلى البحر: العديد من الإسرائيليين يشعرون بالحيرة، عندما يُطلب منهم تحديد الحدود، حيث تنتهي إسرائيل وتبدأ الضفة الغربية. ووجد بحث للسيدة تمارا في عام 2016، أن نسبة صغيرة فقط من الإسرائيليين يعرفون على وجه اليقين، أن الخط الأخضر هو الحدود التي رسمتها هدنة عام 1949، وبضحكة حزينة، وصفت السيدة هيرمان، العديد من خرائط الفصل الدراسي، بأنها “من النهر إلى البحر”.
٥- خرج المتظاهرون الإسرائيليون مراراً وتكراراً إلى الشوارع للتعبير عن الألم؛ بسبب الرهائن المحتجزين في غزة، والغضب من السيد نتنياهو، (الذي واجه معارضة داخلية شديدة قبل فترة طويلة من 7 أكتوبر) لفشله في إنقاذهم. لكن لا ينبغي الخلط بين المظاهرات والدعوات الدولية لحماية المدنيين في غزة.
يريد العديد من الإسرائيليين وقف إطلاق النار لتحرير الرهائن، يليه الإطاحة بالسيد نتنياهو– لكن الاحتجاجات لا تمثل موجة من التعاطف مع الفلسطينيين، أو رغبة شعبية في إعادة التفكير في الوضع، الذي كان قائماً قبل الاحتلال والسلام الذي طال صمته.
٦- الإجماع على رفض الدولة الفلسطينية: هناك سبب يجعل السيد نتنياهو، يواصل تذكير الجميع، بأنه قضى حياته المهنية في تقويض الدولة الفلسطينية: إنها نقطة بيع لعموم الجمهور الإسرائيلي. إن السيد جانتس- رئيس الأركان السابق وواحد من أهم مسئولي الحرب في حكومة نتنياهو- الذي يتمتع بشعبية أكبر من السيد نتنياهو، وغالباً ما يُذكر كخليفة محتمل، هو وسطي وفقاً للمعايير الإسرائيلية– لكنه أيضاً يعارض الدعوات الدولية لإقامة دولة فلسطينية.
يصف دانييل ليفي- الصحفي الإسرائيلي- الانقسام الحالي بين كبار السياسيين الإسرائيليين بهذه الطريقة: يعتقد البعض “بإدارة الفصل العنصري بطريقة تمنح الفلسطينيين المزيد من الحرية- وهذا هو [يائير] لابيد، وربما جانتس في بعض الأيام”، في حين أن المتشددين مثل السيد سموتريش ووزير الأمن إيتمار بن جفير “يهدفان في الواقع إلى التخلص من الفلسطينيين بالاستئصال والإزاحة.”
هذا ما يتعلق بالمجتمع، فماذا عن الجيش؟
يقدم لنا https://foreignpolicy.com/2024/04/09/israel-hamas-war-gaza-death-toll/ ياجيل ليفي، أستاذ علم الاجتماع السياسي والسياسة العامة في الجامعة المفتوحة في إسرائيل إجابته في النقاط التالية:
- تحت قيادة رئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي، من عام 2019 إلى عام 2023، تم تعزيز المعايير القائمة على القتل. كان هدف كوخافي، هو إعادة تشكيل الجيش وتحويله إلى قوة قتالية ” فتاكة، وفعالة، ومبتكرة “، أو بعبارة أخرى، جيش يولد الموت.
- إن توجيهات كوخافي، للقادة الميدانيين بتقييم عدد قوات العدو التي قُتلت، والأهداف التي تم تدميرها، في نهاية كل مرحلة قتالية- بدلاً من التركيز فقط على الغزو الإقليمي- تشير إلى تحول نحو تكتيكات الموت، حيث يكون الهدف الأساسي من المشاركة العسكرية هو قتل قوات العدو.
في هذا التصور، لا يصبح القتل نتيجة للحرب فحسب، بل يصبح هدفها الرئيسي. تم تكثيف نهج استخدام عدد الجثث كمقياس للنجاح بشكل ملحوظ خلال الحرب الحالية، ومن خلال تحديد هدف عددي، تحول الجيش الإسرائيلي من النظر إلى النتائج كمقياس للتقدم- مثل تحييد التهديد الذي يشكله قطاع غزة على إسرائيل- إلى جعل إحصاء الجثث هو المعيار الرئيسي.
انتهى كلام ياجيل ليفي.
قام التصور الاستراتيجي في المنطقة بعد حرب أكتوبر/ تشرين أول ١٩٧٣، على أن مصر قوة سلام واستقرار في المنطقة، لكن الخطأ الاستراتيجي الذي تأسس عليه هذا التصور، هو أنه يمكن تحقيق ذلك السلام والاستقرار بعزل مصر عن قضايا المنطقة، أو على أقل تقدير رسم أدوارها على مقاس الولايات المتحدة، وقوى أخرى في الإقليم. أظهر الطوفان، أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار بفصل المسارات عن بعضها البعض، وأبرز أن إسرائيل لا يمكن المراهنة على سلام معها، برغم تصاعد التطبيع عبر ما يطلق عليه الاتفاقات الإبراهيمية.
وفق هذا التصور، يصير السؤال مشروعا: هل آن الأوان أن تدرك نخبة الحكم والثقافة في مصر، أن المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حماس، تدافع عن أمننا القومي المباشر، وهي تدفع أثمانا مؤجلة بالنسبة لنا، ولو إلى حين؟