مقالات ورأى

يحيى حسين عبدالهادي يكتب: ما أَتعَسَ أن يجتمع الذُلَّان على الإنسان.. ذُلُّ الفقر.. وذُلُّ المرض

زَمَن ١

في مطلع ستينيات القرن الماضي في مدرسة رياض الابتدائية الحكومية بأسيوط .. جاء طاقمٌ من مديرية الشؤون الصحية ليفحص الحالة الصحية لجميع التلاميذ، بما فيها حدة الإبصار والسمع ..

كان هذا من صميم عمل وزارة الصحة في عهد وزيرها د.النبوي المهندس (قبل أن تُسَّمِيَ وزيرةٌ أخرى بعد نصف قرنٍ كلَّ أعمال وزارتها مبادراتٍ رئاسية، بما في ذلك هذا الفحص الروتيني لتلاميذ الابتدائي!) ..

كان ذلك غَيْضاً من فَيْضِ النبوي المهندس الذى أَسَّسَ للمنظومة الصحية التى تنحاز للبسطاء والفقراء، وهى المنظومة التى اعتبرتها منظمة الصحة العالمية وقتها ثورةً صحيةً فى دول العالم الثالث ..

فقد عكف على إنشاء شبكة الوحدات الصحية فى الريف بواقع وحدة صحية فى كل قرية، ومجموعة صحية فى القرى الكبرى ومستشفى مركزى فى كل مركز، ومستشفى عام فى عاصمة كل محافظة، ليبلغ عدد الوحدات الصحية فى ذلك الوقت ٢٥٠٠ وحدة، امتلكت بها مصرُ واحدةً من كبرى الشبكات الصحية فى العالم ..

وهو أول من فكر فى إنشاء المستشفيات التخصصية فأنشأ معهد القلب ومعهد شلل الأطفال والسمع والكلام، وافتتح أول المعاهد التدريبية العليا لاختصاصات التمريض والعلاج الطبيعى، بالإضافة إلى إنشاء مستشفيات الحميات والصدر فى جميع المحافظات.

وطَوَّرَ الإسعاف إلى غرف إنقاذٍ مُزَّوَدَةٍ باللاسلكي وأجهزة تنفس صناعي ونقل دم، وأَسَّسَ فكرة حملات التطعيم للوقاية من أوبئةٍ وأمراضٍ مثل الدرن وشلل الأطفال.

وأسَّس تنظيم الأسرة، ووضع أساس صناعة الدواء وهيئة للرقابة عليه، وصدر فى عهده أول قانون للتأمين الصحى ليبدأ تطبيقه على موظفى الدولة ..

أنجز الرجلُ كلَّ ذلك في صمتٍ، فقد كان قليل الظهور في الإعلام حتى لَقَّبَتْه الصحافة ب(أبو الهول) ..

ظَلَّ الرجل يعمل حتى مات على مكتبه بسكنةٍ قلبيةٍ في سِنِّ ٥٣ (وهي السِنُّ التي مات فيها رئيسه الذي كَلَّفَه وسانده).

زَمَن ٢

في تسعينيات القرن الماضي .. استنجد بي قريبي الطالب عندما أُصيبت أُمُّه بوعكةٍ شديدةٍ مفاجئةٍ لأصحبهما في سيارتي الكبيرة نسبياً إلى القسم الخاص بإحدى المستشفيات الحكومية الشهيرة التي أوصى الطبيب المعالجُ بأن تسبقه إليها ..

كانت قريبتي من الأثرياء وأبناؤها جميعاً يعملون في الخليج، فيما عدا هذا الابن الذي لم يزل طالباً في الجامعة وسيارته صغيرة لا تسمح بأن تتمدد الأم في الكرسي الخلفي أثناء نقلها إلى المستشفى ..

كان (القِسم الخاص) أحدَ الابتكارات التي بُدِئَ في إضافتها في الزمن الجديد للتحايل على منظومة النبوي المهندس لصحة الفقراء .. لم نجد لها سريراً ..

ظللنا لعدة ساعاتٍ ننتقل من مستشفى لآخر إلى أن تم حجزها في إحدى المستشفيات (الاستثمارية) بالدقي ..

كان ممن تواصَلْتُ معهم في هذه الليلة طبيبٌ من المناضلين في أحد المستشفيات الحكومية لَفَتَ نظري إلى أنه حتى لو وجد لها سريراً بمستشفاه فعليها أن تشتري كل المستلزمات الطبية من الشاش والقطن حتى المحاليل والأدوية بينما الوقت محدودٌ لا يُسعفنا ..

سَأَلْتُه في نهاية الليلة العصيبة (هذا حالُ سيدةٍ ثَرِّيَةٍ، فماذا يفعل الفقيرُ إذا مرض؟) .. أجابني دون ترددٍ (يموت) ..

لم أكن أعرف مكان قبر النبوي المهندس فذهبتُ قبل أن أعود إلى منزلي إلى ضريح رئيسه الذي قال فيه صلاح عبد الصبور (كان الملاذ لهم من الليل البهيم .. وكان تعويذ السقيم .. وكان حلم مضاجع المرضى) ..

وقرَأْتُ الفاتحة لعبد الناصر والنبوي المهندس وللفقراء الذين تَيَتَّمُوا في زمن الليبرالية المتوحشة التي تراجعت في العالم كله واستقرت في أحضان أمانة السياسات.

زَمَن ٣

العَشرية التي بدأت بدستورٍ جديدٍ كان جيداً بصفةٍ عامةٍ، تَضَّمَن للمرة الأولى في التاريخ المصري مادةً تُلزِمُ الدولةَ بإنفاق نسبةٍ لا تقل عن ٣٪؜ من الناتج القومي الإجمالي على الصحة، وتتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية (النسبة المُثلَى ٩,١٪؜ وفقاً لمنظمة الصحة العالمية) ..

كانت تلك المادة نتاج جهدٍ مباشرٍ للطبيبين الوطنيين عبد الجليل مصطفى ومحمد غنيم مع كتيبةٍ من الأطباء المجاهدين على نَهْج النبوي المهندس .. كُتِبَ الدستور بنوايا حَسَنَةٍ ..

لكن أهلَ الشر من أصحاب النوايا السيئة لم يَكْتَفُوا بإفراغ هذه المادة من معناها (لم تَتَّعَدَ النسبة في أي سنةٍ من السنوات ١,٥%) وإنما قاموا بسحق باقي المواد الشبيهة الخاصة بالتعليم قبل الجامعي (٤٪؜) والجامعي (٢٪؜) والبحث العلمي (١٪؜) فضلاًعن مُدَد الرئاسة والإفصاح عن الذمم المالية للرئيس ووزرائه .. وهي مواد لو كانت طُبِّقت لَتَغَّيَرَ وجه الحياة في مصر.

وقد أغلق رأسُ الدولة هذا الباب بقَوْلِه (إنَّ الميزانيات المطلوبة للإنفاق على الصحة والتعليم وفق الدستور غير متاحة).

ولأنَّ فلسفة الدولة تَغَّيَرَت من الإنتاج إلى البَيْع، أقَّر ما يُسَّمَى بمجلس النواب في الأسبوع الماضي قانوناً يتيح تأجير ما تَبَّقَى من مستشفيات النبوي المهندس للأجانب.

كان النبوي ورجاله يعملون تحت راية (فأما الزَبَدُ فيذهب جفاءَ وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض) أَمَّا في زمان الكلام الفارغ من كل مضمونٍ، فقد صار ما ينفع الناسَ يُباعُ على قارعة الطريق، واستَّقَرَ الزَبَدُ على مواقع المسؤولية.

حَذار .. فلم تَعُدْ لسؤال عنوان المقال إجابةٌ واحدةٌ كما كانت قبل ثلاثين عاماً .. (ما الذي يفعله الفقير إذا مرض؟): يموت .. أو يثور.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى